وكان شيخ شيوخنا سيدى على رضي الله عنه يقول : (من أراد أن يذوق فليذهب إلى السوق). وذلك لأنه مظنة الزحام ، وفيه عند الأقوياء الربح التام ، فيقال لهم : يا أيها الناس الكاملون فى الإنسانية ؛ كلوا مما فى الأرض بأرواحكم وأسراركم ، شهودا واعتبارا ، حلالا طيبا ، ولا تتبعوا خطوات الشيطان ، فتقفوا مع ظواهر الأكوان ، فتحجبوا عن الشهود والعيان ، فإنه لكم فى صورة العدو المبين ، لكنه فى الحقيقة يحوشكم إلى الرسوخ والتمكين ، لأنه كلما حرككم بنزغه فزعتم إلى ربكم فى دفعه ، حتى يمكنكم من حضرته ، فإنما يأمركم بما يسوء وجوهكم ويغم قلوبكم ، من مفارقة شهود الأحباب ، والوقوف من وراء الباب ، وأن تقولوا على الله ما ليس بحق ولا صواب ، كثبوت السّوى ، أو الالتفات إلى الهوى. والله تعالى أعلم.
ثم أعلمنا الحق تعالى أن بعض من سبق عليه الشقاء لا يخرج عن هواه ، ولا يجيب من دعاه ، فقال :
(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٧٠))
قلت : الضمير فى (لهم) يعود على (من يتخذ من دون الله أندادا) ، أو على (الناس) ، من قوله : (يا أيها الناس) ، أو على (اليهود) المتقدمين قبل ، وألفى : بمعنى وجد ، يتعدى إلى مفعولين ، وهما هنا : (آباءنا) والجار والمجرور ، أي : نتبع فى الدين ما وجدنا آباءنا كائنين عليه.
يقول الحق جل جلاله : (وَإِذا قِيلَ) لهؤلاء المشركين من كفار العرب : (اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ) على رسوله من التوحيد ، وترك الأنداد له والأمثال ، وتحريم الحرام وتحليل الحلال ، (قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ) ما وجدنا (عَلَيْهِ آباءَنا) من عبادة الأصنام ، وارتكاب المعاصي والآثام ، قال الحق جل جلاله : أيتبعونهم تقليدا وعمى ، ولو كان آباؤهم جهلة (لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً) من الدين ، ولا يتفكرون فى سبيل المهتدين؟! وقال ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ : دعا النبي صلىاللهعليهوسلم اليهود إلى الإسلام ، ورغبهم فيه ، فقال له رافع بن خارجة ومالك بن عوف : بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا ، فهم كانوا خيرا وأعلم منا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية. ه.
الإشارة : وإذا قيل لمن أكبّ على دنياه ، واتخذ إلهه هواه ، فأشرك فى محبة الله سواه : أقلع عن حظوظك وهواك ، وأفرد الوجهة إلى مولاك ، واتبع ما أنزل الله من وجوب مخالفة الهوى ومحبة المولى ، قال : بل أتبع ما وجدت عليه الآباء والأجداد ، وأكبّ عليه جلّ العباد ، فيقال له : أتتبعهم فى متابعة الهوى ، ولو كانوا لا يعقلون شيئا