القدم ، وهجران الإخوان ، ومفارقة الأوطان ، ونسيان ما علم وجهل). ه. قلت : قوله : (وهجران الإخوان) ، يعنى : غير من يستعين بهم على السير ، وأما من يستعين بهم فلا يستغنى عنهم.
واعلم أن توحيد الخلق لله تعالى على ثلاث درجات :
الأولى : توحيد العامة : وهو الذي يعصم النفس والمال ، وينجو به من الخلود فى النار ، وهو نفى الشركاء والأنداد ، والصاحبة والأولاد ، والأشباه والأضداد.
الثانية : توحيد الخاصة : وهو أن يرى الأفعال كلها صادرة من الله وحده ، ويشاهد ذلك بطريق الكشف لا بطريق الاستدلال ، فإنّ ذلك حاصل لكل مؤمن ، وإنما مقام الخاصة يقين فى القلب بعلم ضرورى لا يحتاج إلى دليل ، وثمرة هذا العلم الانقطاع إلى الله ، والتوكل عليه وحده ، فلا يرجو إلا الله ، ولا يخاف أحدا سواه ، إذ ليس يرى فاعلا إلا الله ، فيطرح الأسباب ، وينبذ الأرباب.
الدرجة الثالثة : ألا يرى فى الوجود إلا الله ، ولا يشهد معه سواه ، فيغيب عن النظر إلى الأكوان فى شهود المكوّن ، وهذا مقام الفناء ، فإن ردّ إلى شهود الأثر بالله سمى مقام البقاء. ه. قال بعضه ابن جزىّ باختصار.
قلت : وفى التحقيق أنهما مقامان ؛ مقام أهل الدليل والبرهان ، وهو المذكور فى الآية ، لأنه هو الذي يطيقه جميع العباد ، ومقام أهل الشهود والعيان ، وهو خاص بالأفراد الذين بذلوا مهجهم فى طلب الله ، باعوا أنفسهم وأموالهم فى سبيل الله ، فعوضهم الله فى الدنيا جنة المعارف ، وزادهم فى الآخرة جنة الزخارف.
(أهل الدليل والبرهان عموم عند أهل الشهود والعيان) ؛ لأن أهل الشهود والعيان قدسوا الحق تعالى عن أن يحتاج إلى دليل ، فكيف يعرف بالمعارف من به عرفت المعارف؟ كيف يستدل عليه بما هو فى وجوده مفتقر إليه؟ أيكون لغيره من الظهور ما ليس له؟ ـ متى غاب حتى يحتاج إلى دليل عليه؟ ومتى بعد حتى تكون الآثار هى التي توصل إليه؟ ـ ولله در القائل :
لقد ظهرت فما تخفى على أحد |
|
إلا على أكمه لا يبصر القمرا |
لكن بطنت بما أظهرت محتجبا |
|
وكيف يبصر من بالعزة استترا؟ |