فتلك (أُمَّةٌ) أي : جماعة (قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ) من الخير ، (وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ) أنتم ، (وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) فلا تؤاخذون بسيئاتهم ، كما لا تثابون بحسناتهم. وهذا كما قال صلىاللهعليهوسلم لقريش : «لا يأتينى الناس بأعمالهم وتأتونى بأنسابكم».
الإشارة : يقال لمن حصر الخصوصية فى أسلافه ، ونفاها عن غيرهم : هل حضرتم معهم حين أوصوا بذلك؟ بل ما كانوا يوصون إلا بإخلاص العبودية ، وتوحيد الألوهية ، ومشاهدة عظمة الربوبية ، فمن حصّل هذه الخصال كانت الخصوصية معه أينما كان ، ومن حاد عنها ومال إلى متابعة الهوى انتقلت إلى غيره ، ويقال له : إن أسلافه قد جدّوا ووجدوا ، وأنت لا تنتفع بأعمالهم فى طريق الخصوصية ، (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ...) الآية. وبالله التوفيق.
ولما أمر اليهود والنصارى المسلمين باتباع دينهم ، لأنه أقدم ، ردّ الله عليهم ، فقال :
(وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٣٥))
قلت : الضمير فى (قالوا) لأهل الكتاب ، و (أو) للتفصيل ، أي : قالت اليهود : كونوا هودا ، وقالت النصارى : كونوا نصارى. و (تهتدوا) جواب الأمر ، و (ملة) منصوب بفعل محذوف ، على حذف مضاف ، أي : بل نكون أهل ملة إبراهيم ، أو نتبع أو نلزم ملة إبراهيم ، و (حنيفا) حال من المضاف إليه ، لأنه كجزئه ، أي : مائلا عن الباطل إلى الحق.
يقول الحق جل جلاله : وقالت اليهود للمسلمين : (كُونُوا) معنا هودا (تَهْتَدُوا) ؛ فإن ديننا أقدم ، وقالت النصارى لهم أيضا : كونوا (نَصارى) معنا (تَهْتَدُوا) ؛ فإن ديننا أصوب ، (قُلْ) لهم يا محمد : (بَلْ) نلزم (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) الذي كان مائلا عن الباطل متبعا للحق ، ومشاهدا له وحده. ولم يكن من المشركين كما أشركتم بعزير وعيسى وغيرهما ، تعالى الله عن قولكم علوا كبيرا.
الإشارة : قد سرى هذا الطبع فى بعض المنتسبين ، يرغّبون الناس فى طريقهم ، ويحرصون على اتباعهم والدخول معهم ، وينقصون طريق غيرهم ، وهو وصف مذموم ، بل الواجب أن ينظر الإنسان بعين البصيرة ، فمن وجده يدل على الله ويغيب عما سواه ، ينهض حاله ويدل على الله مقاله ، اتبعه وحطّ رأسه له ، ولزم ملته وطريقه أينما كان ، وكيفما كان. ومن وجده على غير هذا الوصف ، أعرض عنه ، والتمس غيره ، وليس من شأن الدعاة إلى