الإشارة : ملة أبينا إبراهيم عليهالسلام هى رفع الهمة عن الخلق ، وإفراد الوجهة للملك الحق ، ورفض الوسائط والأسباب ، والتعلق برب الأرباب ، وفى ذلك يقول الشاعر ، وهو الششترى :
فرفض السّوى فرض علينا لأنّنا |
|
بملة محو الشّرك والشّكّ قد دنّا |
ومن ملته أيضا : ترك التدبير والاختيار ، والاستسلام لأحكام الواحد القهار ، فمن تمسك بهذه الخصال على التمام ، ووصى بها من لقيه من الأنام ، جعله الله فى الدنيا إماما يقتدى بأقواله ويهتدى بأنواره ، وإنه فى الآخرة لمن الصالحين المقربين مع النبيين والمرسلين ، وأما من رغب عن هذه الملة الحنيفية فقد خسر الدنيا والآخرة. نسأل الله الحفظ بمنّه وكرمه.
ولما ادّعت اليهود أن اليهودية هى ملة إبراهيم عليهالسلام كذّبهم الله تعالى ، فقال :
(أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٣) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٤))
قلت : (أم) منقطعة ، والاستفهام فيها للإنكار ، أي : ما كنتم حاضرين حين حضر يعقوب الموت ، وقال لبنيه ما قال ، فكيف تدعون اليهودية عليه ، و (إلها واحدا) بدل من (إله آبائك) ، وفائدته التصريح بالتوحيد ، ونفى التوهم الناشئ عن تكرير المضاف ، لتعذر العطف على المجرور ، والتأكيد ، أو نصب على الاختصاص أو الحال ، وعد إسماعيل من الآباء تغليبا ، أو لأنه كالأب ؛ لقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «عمّ الرجل صنو أبيه» وقال فى العباس : «هذا بقية آبائي». قاله البيضاوي.
يقول الحق جل جلاله فى توبيخ اليهود على زعمهم أن اليهودية كانت ملة إبراهيم ، وأن يعقوب عليهالسلام أوصى بها عند موته ، فقال : هل كنتم حاضرين عند يعقوب حين حضرته الوفاة حتى أوصى بما زعمتم؟ وإنما كانت وصيته أن قال لبنيه : (ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي) أي : أىّ شىء تعبدونه؟ أراد به تقريرهم على التوحيد وأخذ ميثاقهم على الثبات عليه ، (قالوا) فى جوابه : (نَعْبُدُ إِلهَكَ) المتفق على وجوب وجوده وثبوت ألوهيته الذي هو (إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ) من قبلك (إِبْراهِيمَ) وولده (إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) الذي هو إله واحد. ونحن منقادون لأحكامه ، مستسلمون لأمره إلى مماتنا ، فلم يوص يعقوب إلا بما سمعتم ، فانتسابكم يا معشر اليهود إليهم لا يوجب انتفاعكم بأعمالهم ، وإنما تنتفعون بموافقتهم واتباعهم.