واستدلت المالكية بالقصة على التدمية الحمراء (١) ، وهى قبول قول القتيل قبل موته بأن فلانا قتله ، وفيه نظر ؛ لأن هذا حيى بعد موته فلا يتطرقه الكذب ، واستدلت أيضا على حرمان القاتل من الإرث ، وفيه نظر ؛ لأن هذه شريعة من قبلنا يتطرقها النسخ ، لكن ثبت فى الحديث أنه لا يرث. والله تعالى أعلم.
الإشارة : إذا أمر الشيخ المريدين بذبح نفوسهم بخرق عوائدها ، فمن تردد منهم فى فعل ما تموت به نفسه ، كان ذلك دليلا على قلة صدقه وضعف نهايته ، ومن بادر منهم إلى قتلها دلّ ذلك على صدقه وفلاحه ونجح نهايته ، فإذا ماتت النفس بالكلية حييت روحه بالمعرفة والمشاهدة الدائمة ، فلا موت بعدها أبدا ، قال تعالى : (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) ، وأما الموت الطبيعي فإنما هو انتقال من مقام إلى مقام ، ومن وطن ضيق إلى وطن واسع ، وأنشدوا :
لا تظنّوا الموت موتا إنه |
|
لحياة ، وهو غاية المنى |
لا ترعكم هجمة الموت فما |
|
هو إلا انتقال من هنا |
فاخلعوا الأجساد من أنفسكم |
|
تبصروا الحقّ عيانا بيّنا |
قلت : والسيف الذي يجهز على النفس ويسرع قتلها هو الذل والفقر ، فمن ذل نفسه بين أبناء جنسه ، وخرق عوائد نفسه ، وزهد فى الدنيا ، ماتت نفسه فى طرفة عين ، وحييت روحه ، وظفر بقرّة العين ، وهى معرفة مولاه ، والغيبة عما سواه.
وكمال الوقت فى ذبح النفس أن تكون متوسطة بين الصغر والكبر ، فإن الصغيرة جدا لا يؤمن عليها الرجوع ، والكبيرة جدا قد يصعب عليها النزوع ، كاملة الأوصاف بحسن الزهد والعفاف ، تسر الناظرين لبهجة منظرها وحسن طلعتها ، وكذلك من كان من أهل الشهود والنظرة ، تسحر مشاهدته القلوب ، ويسوقها بسرعة إلى حضرة علام الغيوب ، لما أقيم به من مشاهدته الملكوت ، حتى إن من لا حظه تناسى أحوال البشرية ، واستولت عليه أنوار الروحانية ، وغاب فى ذكر الحبيب عن البعيد والقريب ، كما فى الحديث : «أولياء الله من إذا رؤوا ذكر الله» وتكون أيضا هذه النفس غير مذللة بطلب الدنيا والحرص عليها ، مسلمة لا عيب فيها ، ولا رقّ لشىء من الأثر عليها ، فحينئذ تصلح للحضرة ، وتتمتع بنعيم الشهود والنظرة ، لم يبق لخصم الفرق معها تدارؤ ولا نزاع ، بل أقر الخصم وارتفع النزاع.
__________________
(١) التدمية الحمراء فى القتيل الذي به جرح أو أثر ضرب أو سم ، فإن لم يكن به فهى التدمية البيضاء.