الإشارة : من شأن الأرواح الطيبة التشوق الى الحضرة ، والتشوف إلى العيان والنظرة ، فلا يحصل لها كمال التصديق والإيقان إلا بعد الشهود والعيان ، فلما علم الحق سبحانه من بعض الأرواح صدق الطلب ، رفع عنها الحجاب ، وفتح لها الباب ، فأخذتها صاعقة الدهشة والحيرة ، ولم تطق صدمة المشاهدة والنظرة ، فغابت عن الأشكال والرسوم فى مشاهدة أنوار الحي القيوم ، ثم منّ عليها بالبعث من موت الفناء إلى حياة البقاء ، فأمنت من الشقاء ، فحصلت لها الحياة الدائمة والسعادة السرمدية. فالصاعقة عند أهل الفن هى عبارة عن الغيبة عن النفس ، وفناء دائرة الحس ، وهى شهود عدمك لوجود الحق ، والبعث منها هو مقام البقاء ، وهو شهود الأثر بالله. وهو مقام حق اليقين. وحاصله : شهود وجود الحق وحده ، لا عدمك ولا وجودك ، «كان الله ولا شىء معه ، وهو الآن على ما عليه كان». وبالله التوفيق.
ثم ذكّرهم الحق لطفه بهم فى حال التيه ، فقال :
(وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٥٧))
قلت : (الغمام) : السحاب الرقيق ، و (المنّ) هنا : العسل ، و (والسّلوى) قيل : اللحم ، والأصح : أنه اسم طائر كالسمانى.
يقول الحق جل جلاله فى تذكير بنى إسرائيل ما أنعم به عليهم فى حال التيه : (وَ) قد (ظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ) يقيكم من الحر فى أيام التيه ، (وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَ) وهو عسل كان ينزل على الشجر من الفجر إلى الطلوع ، فيغرفون منه ما شاءوا ، (وَ) أنزلنا عليكم (السَّلْوى) ، وهو طير كانت تحشره الجنوب ، فينزل عليهم ، فيأخذون منه ما شاءوا ، ولا يمتنع منهم ، فيذبحون ويأكلون لحما طريا ، فقلنا لهم : (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا) بمخالفتهم أمر نبيهم وسوء أدبهم معه ، حيث قالوا : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) ، فعاقبهم بالتيه أربعين سنة ، يتيهون فى مقدار خمسة فراسخ أو ستة. (وَلكِنْ) ظلموا أنفسهم ؛ حيث أوقعوها فى البلاء والمحنة.
روى أنهم لما أمروا بجهاد الجبارين ، جبنوا وقالوا تلك المقالة ، فدعا عليهم سيدنا موسى عليهالسلام فوقعوا فى التيه بين مصر والشام ، فكانوا يمشون النهار فيبيتون حيث أصبحوا ، ويمشون الليل فيصبحون حيث أمسوا ، فقالوا