وأمثال هذه الحوادث إنّما تقع إذا حدثت مفاجأة ، وألمّت دفعة فلا تطيق النفس أن تتوجه إليها كلّ التوجّه ، وتضبط مع ذلك الانتظام في أمر سائر قواها وأفعالها ، وإن كان من الممكن أن تتلبّس بها وتحفظ تدبير سائر أمورها معها ، إذا وقعت تدريجا وحصلت قليلا قليلا ، وكان هذا هو الفرق بين الملكة وبين نساء المدينة ؛ فإن استغراقها في حبّ يوسف حصل لها تدريجا ، وأمّا النسوة فإنهنّ فوجئن به ، فغادرهنّ الحبّ ، ففضحهنّ وأطاح عقلهنّ ، وأضلّ رأيهنّ ، فنسين الفاكهة ، وقطّعن أيديهنّ ونسين كلّ تجلّد واصطبار ، وأبدين ما في نفوسهنّ من وله الانجذاب.
(وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ)
هذا ؛ وهنّ في بيت العزيز ، وهو بيت يجب فيه التحفّظ على كل الأدب والوقار ، وهنّ عند الملكة يجب أنّ يتّقينها ويخشين بوقعها ، وهنّ شريفات ذوات جمال وذوات بعولة وذوات خدر وستر وذوات سمة وجاه ، وهذه كلّها جهات مانعة عن الخلاعة والتهتّك ، وهنّ جمع ما نسين ما كنّ يتحدّثن به بالأمس من تعيير الملكة ولومها في حبّها ليوسف ، وهما في بيت واحد منذ سنين ، فكان يجب لكلّ منهنّ أن تتّقي الأخرى فلا تتهتّك ، وهنّ يعلمن ما انجرّ إليه أمر الملكة بالآخرة من سوء الذكر وفضاحة الشهرة ، هذا كله ويوسف واقف أمامهنّ يسمع قولهنّ ويرى فعالهنّ ، فانقلب مجلس الاحتشام إلى حفلة عيش لا يكتم حضارها من أنفسهم شيئا ، ولا يبالي محتفلوها ما قيل أو يقال فيهم.
وقولهنّ هذا أعني قولهنّ : (حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ). بعد قولهّن : (امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي