وبالجملة ؛ كان تحدّثهنّ بالقصّة مكرا بالملكة بقريحة الاستعلاء ، ولمّا رأين يوسف ولا شاهدن منه ما شاهدته الملكة فولّهها وهتك سترها ، وإنّما كنّ يتخيّلن شيئا ، وأين الرواية من الدراية ، والبيان من العيان.
وشاع الخبر حتّى بلغ ذلك الملكة ، فاستيقظت من غفلتها ، وعلمت بمكرهنّ ، فأرسلت اليهنّ ، وكنّ نساء أشراف المدينة وأولياء الملك ، ممّن له رابطة المعاشرة مع بيت الملك ، فتهيّأن للحضور ، وتبرزّن بأحسن الجمال وأوقع الزينة ، على ما هو الدأب في مثل هذه المجامع من مثل هؤلاء النسوة والغواني ، وكلّ تتمنى أن ترى يوسف وما عنده من رائق الجمال ، ففي قلب كلّ منه شيء ، والملكة لا همّ لها إلّا أن تريهنّ يوسف ، حتّى يعذرنه ، ويشتغلن منها بأنفسهنّ ، فتتخلّص من لسانهّن ، وهي لا تعبأ بافتنانهنّ بيوسف ، ولا تخاف عليه منهنّ ؛ لانّها كانت صاحبتها قاهرة عليها خصّته بنفسها ، وهي عالمة بما في نفسه من الاعتزاز والترفّع عن هذه الأهواء والتمايلات.
ثمّ احتالت الملكة فهيّأت لهنّ شيئا من الفواكه وسكاكين بعدد رؤوسهنّ ، ثمّ لمّا حضرن وجرت المحادثة والمفاوضة ، وأخذن في التفكّه ، آتت كلّ واحدة منهنّ سكينا ، وقد كانت سترت على يوسف في بيت آخر ، أمرته بالخروج اليهنّ ، فلمّا طلع عليهنّ ، ووقعت عليه أعينهنّ طاحت عقولهنّ ، ولم يشعرن إلّا أن قطّعن أيديهنّ مكان الفاكهة ، وهذه خاصّة الوله والفزع ؛ فإنّ نفس الإنسان إذا انجذبت إلى شيء ممّا تأنس به وتحبّه أو تخافه وتهابه اضطربت ، فنسيت تدبير القوى جميعا وهو الموت ، أو بعض التدبير ، فاختلّت حينئذ أفعالها فترى أنّها تخبط في فعلها ، وليس ذلك إلّا أنّها نسيت بعض أفكارها وآرائها ، وبقي عندها بعض آخر ، ففعلت بقصدها وأظهرت ما طويت في نفسها واختزنت في سرّها ،