التحكّم ، أخذا بالدلال ، وركونا ممّا بينهما من الحبّ والكرامة ، وفيه دلالة ظاهرة على شدّة حبّ العزيز لها ، وأخذها بمجامع قلبه ، ولذلك لم يسسها الملك إلّا سياسة خفيفة حين بان الأمر ، فعاقبها وقال : (إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) إلى أن قال : (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ)، ولم يلبث كثيرا حتّى ألبست الأمر عليه ، فسجن يوسف بضع سنين ، والدليل عليه اعتراف الملكة حين أراد الملك إحضار يوسف من السجن ، واعترفت النسوة ببراءة ساحته : (قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) ، (١) فالملك كان يحبّها حبّا شديدا ، وأمّا هي فما كان لها همّ ولا هوى إلّا في يوسف ، قد تولّهت في حبّه ، ولم تقل ما قالت ؛ أعني قولها : (ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ)، إلّا أن تصرف العزيز عن نفسها إلى يوسف ، ثمّ تدبّر في أمر يوسف فإن رضي بما تريده منه فهو ، وإلّا احتالت بما يكرهه على القبول عن تخويف أو تهديد أو حبس ، كما قالت للنسوة : (لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ)، وإلّا فإنّها لم ترض ، ولا كادت ترضى بما يسوء يوسف وقد شغفها حبّا ، وإنّما هي مكيدة كادتها ، فلمّا سمع يوسف ما قالته للعزيز قال : (هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي).
والكلام على عدم اشتماله على شيء من أدوات التأكيد من قسم أو غيره ، يدلّ على كمال سكون نفسه وربط جأشه إذ كان لم يهمّ بسوء ، ولا يخاف تهمة يخاف من مثلها في مثل هذا المقام ، وقد استعاذ بالله ـ سبحانه ـ ، وهو وليّه مطمئنا به قلبه ، فلذلك قنع من الكلام بمجرد الإخبار ، غير أنّ الكلام مشتمل على قصر القاب. (٢) ...
__________________
(١). يوسف (١٢) : ٥١.
(٢). بياض في النسخة ، والقاب مصدر بمعني : الهرب والتخلّص.