معجّلا بما عنده من غريزة التقوى وخصلة السداد ، إلّا أنّ أمثال هذه الغرائز والإرادات يمكن أن يستضعف تدريجا ويستمات بالآخرة ، بإدامة التسويل والمراودة والملاطفة والتلقين ، كما أنّه كثير النظائر في أمثال هذه الوقائع ، كما يعترف به يوسف فيما حكاه الله ـ سبحانه ـ عنه إذ يقول : (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ)، فما اعتمد يوسف في دفع الشر عن نفسه وما ركن إلّا بالله وحده ـ سبحانه ـ فقال : (مَعاذَ اللهِ)، ولو كان عنده ممّا يستعاذ إليه شيء غير الله سبحانه لذكره ، فقد كان في حال لا تستر فيه الفطرة الغريزيّة مطويّاتها ، ولا يستريح القلب إلّا إلى ما يستقطبه ويركن إليه ، حتّى أنّه ـ عليهالسلام ـ لم يقل : إنّي أرجو كريم الثواب والجنّة ، ولم يقل : إنّي أخاف أليم العذاب والنار ، بل إنّما ذكر الله ـ سبحانه ـ واستعاذ به ، فلم يكن في قلبه إلّا الله ـ سبحانه ـ ، ولا كان يقع إدراكه إلّا به تعالى وعليه شواهد في تضاعيف ما حكى الله ـ سبحانه ـ من كلماته ، كقوله لصاحبيه في السجن : (ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ) ، (١) وقوله أيضا لهما : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) ، (٢) وقوله في آخر ما حكى عنه : (فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) ، (٣) ولذلك وصفه الله ـ سبحانه ـ وهو غاية سير السائرين إليه فقال : (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ)، وقد وصفه قبله بقوله : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ).
__________________
(١). يوسف (١٢) : ٣٨.
(٢). يوسف (١٢) : ٤٠.
(٣). يوسف (١٢) : ١٠١.