ومنها : عجيب أمره تعالى ، وقهره الأسباب بقدرته التامّة قيمومته العامّة ، حيث يسلك إلى الضد ، ويحيي أمرا بعين ما أماته به ، ويظهر بما أخفاه به ، فهؤلاء إخوة يوسف أرادوا إخفاء أمره ، وإعفاء أثره ، وهم بعينهم كشفوا عن أمره وحصلوا به ، وهذا قميص يوسف ابيضّت به عينا يعقوب ، وبعينه ارتدّ بصيرا لمّا جاءه البشير وألقاه على وجهه ، وهذه امرأة العزيز أرادت الفحشاء مع يوسف ، ثمّ رمته بالخيانة ، وهي بعينها صدّقته وأبرأت ساحته عمّا رمت به ، والأمر على هذا القياس في أطراف هذه القصّة.
ويستنتج من ذلك : أنّ آخر اليأس أوّل الرجاء ، وأنّ الشدّة هي المتبدّلة بالرجاء ، على ما جرت عليه سنّة الله تعالى في عالم الأسباب ، ونشأة الدنيا الماديّة ، من التحوّل والتكامل ، وهذا السورة قليلة النظير بين السور ، مشتملة على قصّة تامّة من مفتتحها كسورة نوح.
وفي الجوامع روى أنّ اليهود قالوا لكبراء المشركين : سلوا محمدا لم انتقل آل يعقوب عن الشام إلى مصر وقصّة يوسف؟ قال : فأخبرهم بالصحّة من غير سماع ولا قراءة كتاب. (١)
أقول : ويظهر من قوله ـ سبحانه ـ : (لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ) ، (٢) أنّ نزول السورة كان عن اقتراح سؤال.
قوله ـ سبحانه ـ : (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ)
الإتيان ، بصيغة البعيد من إسم الإشارة ، للدلالة على ارتفاع الشأن ، وبعده عن
__________________
(١). جوامع الجامع ٢ : ١٧٧.
(٢). يوسف (١٢) : ٧.