من حضيض الخمود والخمول ، ويسلك به في صراط العبودية والاستكمال ، وكلّما مرّ بورطة من ورطات الشهوة أو الغضب وأشرف على الهلاك ، أخذ بيده وردّه إلى سواء السبيل ، ولم يزل يقوده بقائد التوفيق ويسوقه بسائق الصلاح والتقوى ، حتّى يوصله إلى ذروة القرب ويمكّنه فى أوج الزلفى ، فيتّحد عند ذلك البشارة والوصول ، وقد مثّل ذلك كلّه بما قصّ فيها من قصّة يوسف الصدّيق ، فإنّه كان طفلا خامل الذكر لا يدري ما تصنع به يد التقدير في مستقبل أمره ، ثمّ بشّره برؤيا أراه وألقى حبّه في قلب والده يعقوب ، فحسده إخوته ، وانجرّ الأمر إلى أن اغتالوه وألقوه في غيابة الجبّ ومحوا رسمه ، ثمّ شروه بثمن بخس ، وهو نهاية سيره إلى الذلة والهوان ، وصيّروه بذلك ممحوّ الذكر عافي الأثر ، وكان الله يسوقه بذلك إلى مستوى العزّ وانتشار الصيت ، حتّى صار إلى بيت العزيز ، فابتلي من مظاهر الشهوة واللذة بما لا منجى منه إلّا بالله ، وكان من قصّته مع امرأة الملك ما كان ، ثمّ أدّى ذلك إلى السجن ، وصار فيه نسيا منسيّا ، ثمّ أنجاه الله منه ، وأقرّه على الملك ، وهو طاهر مطهّر.
أمّا فيما ظلمه إخوته وكادوا به ، فلم يعوّضهم بمرّ الانتقام ، بل صفح عنهم بالفترة ، وأمّا فيما ابتلي به من كيد الملكة ، فإنّه لم يتلّوث بلوث الفحشاء ، فأصبح وقد أتاه الحكم والنبوّة والملك ، وكان من دعواه فيما حكى الله ـ سبحانه ـ عنه قوله : (فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) ؛ (١) وقد أفادت القصّة مع ذلك أنّ أمر الله ـ سبحانه ـ غالب على أمره ، وأنّ كلمته تامّة لا محالة ، وقد ذيّلت القصة بهاتين النتيجتين ، حيث قال ـ سبحانه ـ : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ)، إلى أن قال تعالى : (وَما
__________________
(١). يوسف (١٢) : ١٠١.