المعاني على حقيقتها يوجب أن يكون كل شيء على هويته وشخصيته محفوظا عند الله سبحانه ، لا كما تبقى الأشياء عندنا بصورها ومعانيها ، وإن بطلت بزعمنا أشخاصها ، وفقدتها الأمكنة ومحتها الأيّام ، فإنّ ذلك من المجاز وحقيقته بقاء معانيها في ذكرنا ، أو بقاء آثارها ، بل هي باقية لله بأنفسها محفوظة له بهويّتها وحقيقتها لا بصورها ، لا تفوته سبحانه ولا تغيب ، وإن فاتت الأيّام وغابت عن أبصار الناظرين وبصائر المدركين فإنّ مرجع هذا الفقد والغيبة إلى تقدر الوجود ومحدودية الذوات كما عرفت.
وهو إنّما يتحقّق بين محدود ومحدود ، بل في المحدود فقط ، وأمّا بين محدود وغير محدود ، ومحيط ومحاط ، فغير المحدود لا يفقد المحدود والمحاط لا يغيب عن المحيط ، فقد تحقق أنّ شيئا من الأشياء سواء كان محدودا متناهيا على الإطلاق ، أو غير محدود بالنسبة إلى غيره ، وإن كان محدودا بالنسبة إلى الله سبحانه لا يفوته تعالى ولا يخرج عن إحاطته وعلمه.
ومن هنا يظهر أنّ لو تحقق في الموجودات عدة محدودة وأخرى غير محدودة ، كان غير المحدود غيبا بالنسبة إلى المحدود مطلقا ، وأمّا المحدود فالغيب والشهادة فيه بالنسبة إلى مثله نسبيّ كالمبصر بالنسبة إلى الباصر ، ربّما كان غائبا وربّما كان مشهودا ، والغيب من حيث غيب لا يكون مشهودا للمغيب عنه وهو ظاهر ، قال تعالى : (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ) (١) ، فعلم هذا القسم مقصور بما أودع الله فيهم من إطلاق الوجود قال تعالى : (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ) (٢).
__________________
(١). النمل (٢٧) : ٦٥.
(٢). البقرة (٢) : ٢٥٥.