والثانية : الرحمة الخاصّة وهي الرحمة بعد الرحمة ، وإن شئت قلت : تضاعف الرحمة ، كما قال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١) ، وهذه هي التي تساوق السعادة على مراتبها ، وتتدرج في مراتب كمراتبها ، وتقابل في بعض مراتبها العذاب وتقابل في بعضها الآخر انحطاط المنزلة وقصور الدرجة.
إذا عرفت هذا تبين لك أنّ قوله سبحانه : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) ، ناظر إلى الرحمة العامّة ، وقوله : (فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) إشارة إلى الرحمة الخاصة في الآخرة ، وقد سبق مقابلها في صدر الكلام عند قوله : (قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ) ، وإنّما فصّل بينه وبين قوله : (فَسَأَكْتُبُها) ، لتتّصل الرحمتان ويتمّ بيان حال الرحمة في كلام متصل واحد كما في قوله تعالى : (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) (٢) ، قدّم أصحاب النار ليتّصل أصحاب الجنة بأصحاب الجنة ويخرج الكلام مخرج الإتّصال ، وهو ظاهر.
ومن هنا يظهر وجه تقديم المغفرة على الرحمة في قول موسى ـ عليهالسلام ـ : (فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا) ، وكذا في قوله : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ) (٣) ، فإنّ الأنبياء مختوم عليهم بالسعادة مأمونون من العذاب ، فالذي يتعلّق به همّهم ، هو الرحمة الإلهيّة ، وقد ذكر المغفرة مقدّمة عليها من باب المقدّمة ، ونظير هذا الدعاء دعاء آدم وزوجته حيث قالا : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ
__________________
(١). الحديد (٥٧) : ٢٨.
(٢). الحشر (٥٩) : ٢٠.
(٣). الأعراف (٧) : ١٥١.