هذه السورة التي تأمر النبي صلىاللهعليهوسلم بتبليغ أهل الكتاب بأنهم ليسوا على شيء حتى يقيموا التوراة والإنجيل ثانيا مما يرجح القراءة الأولى.
ولقد رأينا السيد رشيد رضا يورد زعم النصارى أو مغالطتهم بأن هذه الجملة تعني أنهم غير مخاطبين بالقرآن وحكمه. وهذا الزعم غير مستقيم. لأن كل ما تعنيه الجملة بالنسبة للنصارى في زمن النبي ومن بعده أن عليهم إذا أرادوا أن يحتفظوا بنصرانيتهم أن يحكموا بما في الإنجيل ويسجّل عليهم الفسق إذا خالفوه في أحكامهم. أما كونهم مخاطبين في القرآن ومدعوين إلى الإيمان به وبالرسالة المحمدية ففي القرآن آيات عديدة في ذلك من أقربها آيات هذه السورة [١٥ ـ ١٦] و [١٩].
وهذه الجملة تؤيد كما يتبادر لنا وذكرناه في سياق تعليقنا على الإنجيل في سورة الأعراف أنه كان في أيدي النصارى في زمن النبي صلىاللهعليهوسلم إنجيل لعيسى لا بدّ من أنه كان يحتوي ما أنزله الله عليه من وصايا وتعاليم وأحكام. ومن الجدير بالذكر أن في إنجيل مرقس المتداول اليوم عبارات صريحة بأنه كان لعيسى إنجيل وأمر تلامذته بالتبشير به. وفي رسائل بولس ذكر لهذا الإنجيل أيضا (١). وليس في أيدي النصارى إلّا الأناجيل التي كتبها كتّابها بعد وفاة عيسى وضمنوها سيرته.
وينطوي في الجملة أن للنصارى الذين هم في نطاق السلطان الإسلامي حق التقاضي في قضاياهم فيما بينهم أمام قضاتهم كما هو الأمر بالنسبة لليهود على ما شرحناه قبل. وما قلناه هناك يقال هنا بتمامه وبخاصة في الإيجاب على السلطان الإسلامي ملاحظة التزامهم لأحكام الإنجيل وتعاليمه في قضاياهم. وإذا كان يمكن أن يقال إن إنجيل عيسى مفقود وهو ما يقال بالنسبة لتوراة موسى أيضا فما قلناه في صدد الحالة بالنسبة لليهود يصح قوله هنا أيضا من حيث إن في الأناجيل المتداولة أشياء كثيرة من أقوال وتعاليم ووصايا وأحكام معزوة إلى عيسى أو إلى الله عن لسانه عليها سمة الوحي. فيصحّ أن يترك لهم هذا على أن يكونوا في نطاقه
__________________
(١) الإصحاح ١ و ١٦ من إنجيل مرقس والإصحاح ١ من رسالة بولس إلى أهل روما والإصحاح ٩ من الرسالة الأولى إلى أهل كورنتوس.