فصح أن الحياة المذكورة إنما هي ضم الجسد إلى النفس وهو نفخ الروح فيه ، وأن الموت المذكور إنما هو التفريق بين الجسد والنفس فقط ، وليس موت النفس مما يظنه أهل الجهل وأهل الإلحاد من أنها تعدم جملة بل هي موجودة قائمة ، كما كانت قبل الموت وقبل الحياة الأولى ، ولا أنها يذهب حسها وعلمها بل حسها بعد الموت أصح ما كان ، وعلمها أتم ما كان ، وحياتها التي هي الحس والحركة الإراديّة باقية بحسبها أكمل ما كانت قط ، قال عزوجل : (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) [سورة العنكبوت : ٦٤].
وهي راجعة إلى البرزخ حيث رآها رسول الله صلىاللهعليهوسلم ليلة أسري به ، عن الميمنة من آدم عليهالسلام ومشملته إلى أن تحيا ثانية بالجمع بينها وبين جسدها يوم القيامة. وأما أنفس الجن وسائر الحيوان فحيث شاء الله تعالى ، ولا علم لنا إلا ما علمنا ولا يحل لأحد أن يقول بغير علم ، وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد : فلنذكر الآن إن شاء الله تعالى البراهين الضرورية على أن النفس جسم من الأجسام. فمن الدليل على أن النفس جسم من الأجسام انقسامها على الأشخاص ، فنفس زيد غير نفس عمرو فلو كانت النفس واحدة لا تنقسم على ما يزعم الجاهلون القائلون إنها جوهر لا جسم لوجب ضرورة أن يكون نفس المحب هي نفس المبغض هي نفس المحبوب ، وأن يكون نفس الفاسق الجاهل هي نفس الفاضل الحكيم العالم ، ولكانت نفس الخائف هي نفس المخوف منه ، ونفس القاتل هي نفس المقتول وهذا حمق لا خفاء به. فصح أنها نفوس كثيرة متغايرة الأماكن مختلفة الصفات حاملة لأعراضنا ، فصح أنها جسم بيقين لا شك فيه.
وبرهان آخر وهو أن العلم لا خلاف في أنه من صفات النفس وخواصها لا مدخل للجسد فيه أصلا ولا حظ ، فلو كان النفس جوهرا واحدا لا يتجزأ نفوسا لوجب ضرورة أن يكون علم كل أحد مستويا لا تفاضل فيه ، لأن النفس على قولهم واحدة وهي العالمة ، فكان يجب أن ، يكون كل ما علمه زيد يعلمه عمرو ، لأن نفسهما واحدة عندهم غير منقسمة ولا متجزئة ، فكان يلزم ولا بدّ أن يعلم جميع أهل الأرض ما يعلمه كلّ عالم في الدنيا ، لأن نفسهم واحدة لا تنقسم وهي العالمة ، وهذا ما لا انفكاك منه البتة. فقد صحّ بما ذكرنا ضرورة أن نفس كل أحد غير نفس غيره ، وأن أنفس النّاس أشخاص متغايرة تحت نوع نفس الإنسان ، وأن نفس الإنسان الكلية نوع تحت جنس النفس الكلية ، التي يقع تحتها أنفس جميع الحيوان.
وإذ هي أشخاص متغايرة ذات أمكنة متغايرة حاملة لصفات متغايرة فهي أجسام ،