الكلام في المعارف
قال أبو محمد : اختلف الناس في المعارف فقال قائلون : المعارف كلها باضطرار إليها ، وقال آخرون : المعارف كلها باكتساب لها ، وقال آخرون : بعضها باكتساب وبعضها باضطرار.
قال أبو محمد : والصحيح في هذا الباب أن الإنسان يخرج إلى الدنيا غفلا لا معرفة له بشيء كما قال عزوجل : (أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) [سورة النمل : ٧٨].
قال أبو محمد : فحركاته كلها طبيعة كأخذه الثدي حين ولادته ، وتصرفه تصرف البهائم على حسب تألمها وطربها ، حتى إذا كبر وعقل وتقوت نفسه الناطقة ، وأنست بما صارت فيه وسكنت إليه ، وبدأت رطوباته تجفّ بدأت بتمييز الأمور في الدار التي صارت فيها فيحدث الله تعالى لها قوة على التفكير ، واستعمال الحواس في الاستدلال ، وأحدث الله تعالى لها الفهم بما تشاهد وما تخبر به فطريقه إلى بعض المعارف اكتساب في أول توصله إليها لأنه بأول فهمه ومعرفته عرف أن الكل أكثر من الجزء ، وأن جسما واحدا لا يكون في مكانين ، وأنه لا يكون قاعدا قائما معا ، وهو إن لم يحسن العبارة عن ذلك فإن أحواله كلها تقتضي تيقنه لكل ما ذكرنا ، وعرف أولا صحة ما أدرك بحواسه ، ثم أنتجت له بعد ذلك سائر المعارف بمقدمات راجعة إلى ما ذكرنا من قرب أو من بعد ، فكل ما ثبت عندنا ببرهان وإن كان بعيد الرجوع إلى ما ذكرنا فمعرفة النفس به اضطرارية لأنه لو رام جهده أن يزيل عن نفسه المعرفة بما ثبت عنده هذا الثبات لم يقدر ، فإذ هذا لا شك فيه فالمعارف كلها باضطرار ، إذ ما لم يعرف بيقين فإنما عرف بظنّ ، وما عرف ظنا فليس علما ولا معرفة ، هذا ما لا شك فيه ، إلّا أن يتطرق إلى طلب البرهان بطلب وهذا الطلب هو الاستدلال ولو شاء ألّا يستدل لقدر على ذلك ، فهذا الطلب وحده هو الاكتساب فقط ، وأما ما كان مدركا بأول العقل وبالحواس فليس عليه استدلال أصلا ، بل من قبل هذه الجهات يبتدئ كل أحد بالاستدلال وبالرد إلى ذلك فيصح استدلاله أو يبطل ، وحدّ العلم بالشيء هو المعرفة به أن نقول العلم والمعرفة اسمان