قال لي : وحجتهم في هذا الوسواس والكذب على الله تعالى فيه مما لم يقله أحد قبلهم مما يكذبه الحس والمشاهدة ، أنه لا بد للأرض من جسم ممسك وإلا هوت ، فلو كان ذلك الممسك في وقتين أو مقدار طرفة عين لسقط هو أيضا معها ، فهو إذا خلق ثم أفني إثر خلقه ، ولم يقع لأن الجسم عندهم في ابتداء خلقه لا ساكن ولا متحرك.
قال أبو محمد : وهذا احتجاج للحمق بالحمق ، وما عقل أحد قط جسما لا ساكنا ولا متحركا ، بل الجسم في ابتداء خلق الله تعالى له في مكان محيط به من جهاته ولا شك ، ساكن في مكانه ثم تحرك ، وكأنهم لم يسمعوا لقول الله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) [سورة فاطر : ٤١] فأخبر تعالى أنه ممسكها كما يشاء دون تكلف خلق آخر ، إذ لم يخبرنا الله تعالى به ولا جعل في العقول دليلا عليه. ولو أن قائل هذا الحمق وقف على الحق وطالع شيئا من براهين الهيئة ، لخجل مما أتى به من الهوس. ومن شنعهم قول هذا الباقلاني في كتابه المعروف «بالانتصار في القرآن» إن تقسيم آيات القرآن وترتيب مواضع سورة شيء فعله الناس وليس هو من عند الله تعالى ، ولا من أمور رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
قال أبو محمد : قد كذب هذا الجاهل وأفك ، أتراه ما سمع قول الله تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) [سورة البقرة : ١٠٦] وقول رسول الله صلىاللهعليهوسلم في آية الكرسي وآية الكلالة (١) ، والخبر أنه عليهالسلام كان يأمر إذا نزلت الآية أن تجعل في سورة كذا في موضع كذا (٢) ، ولو أن الناس رتبوا سورة لما تعدّوا أحد وجوه ثلاثة : إما أن يرتّبوها على الأول فالأول نزولا ، أو الأطول فما دونه ، أو الأقصر فما فوقه ، فإذ ليس ذلك كذلك فقد صح أنه أمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم الذي لا يعارض عن الله تعالى ، لا يجوز غير ذلك أصلا. ومن شنعهم قول الباقلاني في كتابه في مذاهب القرامطة قرب آخر الكتاب في باب ترجمته «ذكر جمل مقالات الدهرية والفلاسفة والثنوية» قال الباقلاني : فأما ما يستحيل بقاؤه من أجناس الحوادث وهي الأعراض ، فإنما يجب عدمها في الثاني من حال حدوثها من غير معدم ولا شيء يفنيها. هذا نص كلامه. وقال متصلا بهذا الفصل : وأما نحن فنقول إنها تفنى الجواهر ،
__________________
(١) عن أبي هريرة عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «لكل شيء سنام ، وإن سنام القرآن سورة البقرة ، وفيها آية هي سيدة آي القرآن آية الكرسي». رواه الترمذي في ثواب القرآن باب ٢ (حديث ٢٨٨١) والدارمي في فضائل القرآن باب ١٣.
(٢) رواه أبو داود في الصلاة باب ١٢٢.