وجعلناهم فرقا مختلفة ، ووزّعناهم في البلاد المختلفة من العالم لصلاح من صلح منهم ، وانتقاما ممّن عصى بدليل قوله تعالى : (مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ) الخيّرون المؤمنون بالله ورسله (وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ) أي في مرتبة أدنى وأحط من مرتبة الصلاح إذ عملوا عملا صالحا وآخر سيّئا. (وَ) بعد تفريقهم بحسب ما علم من صلاح الصالحين منهم (بَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ) أي اختبرناهم بالنعمة ورغد العيش ، وبالمصائب بالأنفس والأموال. وبعبارة أخرى بالنّعم ، ليعلم الشاكرين ، وبالنّقم ليعلم الصابرين الذين يلجأون إليه تعالى في كشف البلوى (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) إليه سبحانه ويمتثلون أمره ويتوبون مما يصدر منهم من معاصي.
أما عبارة. ومنهم دون ذلك ، فهي في محل رفع على أنه مبتدأ. وقد جاءت : دون ، منصوبة لتمكّنها في الظرفية ، وهي كقوله تعالى : (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) وكقوله عزّ اسمه : (يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) وتقدير العبارة : ومنهم جماعة دون ذلك ، فحذف الموصوف وقامت صفته مقامه.
١٦٩ ـ (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ ...) أي جاء من بعد أولئك الأسلاف أخلاف قاموا مقامهم بوراثة الكتاب : يعني التوراة ، وعبّر بالإرث لأنها تركها الماضي منهم للباقي ، ولكن هؤلاء الأخلاف كانوا (يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى) أي عرض ما في الدنيا من متاع ومغريات والعرض ما يعرض ويقلّ بقاؤه ، فكانوا يرتشون ويحكمون بالباطل ، ويغوصون في الشهوات والملذّات ، وقد ذكّر : الأدنى بقصد : هذا العالم الأدنى ، أي الأقرب إلى مداركهم وشهواتهم الدنيا ، وهو الدار الفانية ، يفعلون فيها الأفاعيل (وَيَقُولُونَ : سَيُغْفَرُ لَنا) أي يعفى عن ذنوبنا. وهذا معناه أنهم يعصون ويعلمون أنهم عصاة ويصرون على معاصيهم ويخلطون الحلال والحرام آملين بالمغفرة والعفو. وجملة : يأخذون عرض هذا الأدنى ، في محل نصب على أنها حال من الضمير في : ورثوا. وورثوا الكتاب صفة لخلف. (وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ) أي إذا جاءهم عرض زائل (مِثْلُهُ) كالعرض المذكور آنفا (يَأْخُذُوهُ) بلا امتناع لأنهم مصرّون