ويمكن أن يكون المراد بالاستطاعة القوّة أو القدرة التي قاسوها بقدرة البشر أو استطاعتهم أو أنها فوق ذلك لتعلّقها بالله تعالى وهي فيه سبحانه أشد وأقوى. وإنّ فهم الناس وإدراكهم في ذلك العصر المعاند للأنبياء والرسل لا يقتضي أكثر من قولهم هذا. وقد قيل إن هذه الأسئلة من الحواريين كانت في أوائل عهد إيمانهم وبدء ملازمتهم لعيسى عليهالسلام ، وقبل أن تستحكم معرفتهم بالله عزوجل. ولذلك أساؤا الأدب مع الله تعالى ومع نبيّه في قولهم : هل يستطيع ربك .. فهذا لسان إساءة عند أهل الأدب والفصاحة لأنه يدل على التحدي نوعا ما. بل البلاغة والأدب كانا يقتضيان أن لا يقولوا له : يا عيسى بن مريم ، بل يا نبيّ الله أو يا روح الله ، أو يا رسول الله بدلا من نسبته إلى أمه. فالتعبير الذي أثبته الله سبحانه في هذه الآية بسائر أجزائها يدل على أنه سجّل عليهم شدة في خطاب نبيّهم بدليل قول نبيّهم عليهالسلام : اتّقوا الله إن كنتم مؤمنين. وعيسى عليهالسلام من أولي العزم وما كان ينبغي أن يخاطب بهذه اللهجة ولا أن يجيب بهذه القساوة لو لا ما ذكرناه في أعلاه ، ولو لا أن بين الحواريين من يشك في إيمانه وإخلاصه كما تصرّح الآيات الأخرى الواردة في موضوع الحواريين رضوان الله عليهم.
والحاصل أن هذه التعابير تكشف عن قصور الإيمان ، أو قصور الفهم لمعاني الربوبية والنبوّة ، أو العناد من مؤمنين هم في أولى مراتب إيمانهم وأول عهد تديّنهم. والأولى بنا أن نحمل معنى الاستطاعة المسؤول عنها هنا ، على ما تقتضيه الحكمة والمصلحة ، أي أن سؤالهم في الحقيقة أنه : هل تقتضي حكمة ربك النوعية ـ عقلا ـ أن ينزّل علينا مائدة من السماء تكون إعجازا يظهر قدرة من هو على كل شيء قدير؟ ... وهذا الحمل هو أحسن ما يرد لحفظ قداسة الحواريين .. ولذلك قد قرئت : هل تستطيع ربّك ، أي هل تقدر أنت على سؤال ربك .. وجملة ينزّل في محل نصب بناء على كونها مفعولا به ليستطيع.