فهو ـ جلّ وعلا ـ إنما وصّانا بالتقوى وبالإيمان هنا وفي موارد متعددة ، رحمة منه ولطفا بنا ، لا لأنه يحتاج إليهما ، ولذا قرر ذلك بقوله : (وَكانَ اللهُ غَنِيًّا) يعني أنه غني عن الخلق وعبادتهم. لا تنفعه الطاعة ولا تضره المعصية ، منزّه عن جميع ما تتصورون ممّا سواه ، لا تعلّق له بسواه لا في ذاته ولا في صفاته ، كان ولا يزال أبدا غنيا (حَمِيداً) مستحقا للحمد حمد أم لم يحمد. وقيل إنه حميد لحمده لنفسه أزلا ، ولحمد عباده له أبدا.
١٣٢ ـ (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ...) هذه الآية الشريفة تكررت ثلاث مرات ولكن ليس تكرارها مستهجنا. بيان ذلك أن الكلام إذا ذكر بحسب مناسبة وجدت واقتضته ، لا يكون ذكره وتكراره لغوا ، ولا يحسب مستهجنا ولو تكرر ألف مرة. وإن سور القرآن الكريم الذي هو في غاية البلاغة والفصاحة قد حوى تكرارا كثيرا لبعض الجمل والعبارات كما في سورتي الرحمن والمرسلات مثلا. فمطلق التكرار ليس بقبيح بل لقد اعتبره الفصحاء ضربا من التأكيد. نعم إذا تكرر دون اقتضاء أو بلا فائدة ، فإنه حينئذ يكون لغوا واللغو قبيح ، وقد جلّ القرآن ـ أمّ اللغة العربية وحافظها ـ عن ذلك .. فإن الله سبحانه كرّر الجملة وهو يقصد في كل مرة بيانا جديدا. ولن نطيل في بيان ذلك بل نكتفي بذكر المناسبة الأخيرة لإقامة الدليل على ما قلناه : قال تعالى : (وَكانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيداً) ، ثم بين غناه بأن له ما في السماوات والأرض. ومثلها غيرها ، فتأمل.
والحاصل أن من كان يملك السماوات والأرض غنيّ ذاتا عمّن سواه من جميع الجهات ، لا شبهة في ذلك ولا ريب عند العقلاء ، فخذ وقس على ذلك ما تقدم من الموارد التي تكررت فيها الآية الشريفة (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) بعد ما ثبت أن المكوّنات طرا تحتاج بذاتها الى مكوّنها وخالقها في جميع شؤونها وسائر أحوالها ، وفي تدبيرها أيضا فلا مندوحة لها عن التوكل عليه وهو خير وكيل يكفي عن كل وكيل ، وهو في كل حال نعم الوكيل لأنه القادر على تقدير أمورها دون أن ينازعه أحد قدرته ، مهما كانت مراتب الكائنات والمخلوقات التي تكل أمورها اليه.