وثانيا ، إذا كان مفاد المضارع محقّق الوقوع ، يقع في صورة الماضي. فيستفاد وقوعه حتما كأنه وقع وخلص. وفي القرآن استعمل الماضي بدل المضارع كثيرا ، وأوضح مثل هو قوله تعالى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) ، مع أن النّفخ يكون يوم البعث. وهذا التعبير تأكيد لوقوع مفاد الجملة ، حيث إن المضارع يحتمل الوقوع وعدمه.
وثالثا ، صراحة الجملة الأخيرة قرينة كاشفة عن أن المراد هو من الجملة الأولى لا من الأخيرة. فالأخيرة بصراحتها تصرف الأولى عن ظاهرها لو قبلنا ظهورها في القبليّة ، فإنّ آيات القرآن الكريم قرينة بعضها على بعض ، وتفسير بعضها لبعض لصراحته أو أظهريّته ..
(وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ) أي أعطوا العلم به إذ جعلوا المزيل للاختلاف سببا له ، أي لحصوله ، كاليهود فإنهم كتموا صفات محمد صلىاللهعليهوآله بعد ما أعطوا العلم به (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ) أي الأدلّة والحجج الواضحة ، وقيل التوراة والإنجيل (بَغْياً بَيْنَهُمْ) يعني : ظلما وحسدا وطلبا للرئاسة (فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِ) بيان لما قبله ، هداهم لذلك (بِإِذْنِهِ) أي برخصته ولفظه وأمره (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي يرشد إلى سبيل الهدى والنّجاة في الدّنيا والآخرة من يشاء ، أي من له القابلية لذلك.
٢١٤ ـ (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ ...) ولمّا ذكر اختلاف الأمم على أنبيائهم تسلية للنبيّ عليه الصلاة والسلام ، وتشجيعا للمؤمنين على الصّبر على عنت مخالفيهم ، التفت إليهم بالخطاب وقال : لا تظنّوا دخول الجنة سهلا ، ونحن نعرض عليكم ذكر من سلف .. وأم منقطعة وهمزتها للإنكار ، ومعناها هنا : بل حسبتم ، أي : لا تحسبوا ولا تتوقّعوا ذلك .. وقيل : «أم حسبتم» استبعاد للحسبان ، وإنكار عليهم. والحاصل أنه بل حسبتم دخولكم الجنّة (وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) أي : هل تتوقّعون دخولها أو تترقّبونه قبل أن تمتحنوا وتبتلوا بمثل ما امتحنوا وابتلوا