كانوا يعيشون فطرتهم الأولى التي ولدوا عليها ، ممّا جعلهم قابلين لأيّ دين وأيّة ملّة تعرض عليهم ، فبدا لله تعالى أن أرسل الرّسل وأنزل الكتب لإرشاد البشر وهدايتهم الى الدين الحق ، ولتخليصهم من تيه الحيرة والضلال. وكان ذلك قبل نوح عليهالسلام كما يستفاد من رواية العياشي عن الصادق عليهالسلام ومن غيرها (فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) مبشّرين بالجنّة لمن أطاعهم في أمر الله ، ومنذرين بالنّار لمن عصاهم (وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِ) وظاهر الآية المباركة أنه أنزل مع كلّ نبيّ كتابا ، ولكنّ الأعلام من المفسّرين قالوا : إن الكتاب اسم جنس ، والمعنى أنه أنزل مع بعضهم ولم ينزل مع كلّ نبيّ كتاب. وقد قيل إن عدد الأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألفا ، وأنّ الرّسل منهم ثلاثمئة وثلاثة عشر ، والمسمّون منهم في القرآن ثمانية وعشرون فقط ... وقوله سبحانه : بالحق ، حال من الكتاب ، أي متلبّسا بالحق (لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ) أي الله تعالى يحكم ، أو الكتاب من باب التوسعة في المجاز كقوله : هذا كتابنا ينطق بالحق. فيحكم (فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ). فإن قلت : إن المستفاد من قوله تعالى : (وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِ) إلخ ... يدل على انّ الاختلاف كان موجودا بين الناس قبل بعث الرّسل وإنزال الكتب ، وذلك بحكم مضارعيّة «ليحكم» وماضويّة «اختلفوا» وإذا عرف ذلك تعرف المناقضة ظاهرا مع قوله تعالى : (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ) ، إذ صريحه أن الاختلاف إنما كان بعد بعث الرّسل وإنزال الكتب؟. قلنا : إن الجواب عن المناقضة المستفادة تمكن بأمور :
أمّا أولا ، فكثيرا ما يكون مفاد الماضي الذي بعد المضارع مضارعا ، ومع ذلك يستعمل بصورة الماضي لنكتة نشير إليها فيما يأتي. وهذا دائر ورائج في العرف والعادة فتقول : اذهب ، أو تقول : تذهب. وأنا جئت وقد تزيد كلمة الآن. فليس كون كلّ جملة ملبّسة بلباس الماضويّة دليلا على كونها ماضية حقيقة.