الربّانيّة والنعمة السماوية ... فقد قدّر سبحانه لعباده نزول هذا الماء (فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) وذلك بإخراج نباتاتها وتثمير أشجارها ، وتفجير أنهارها ، وانشقاق عيونها وقنواتها ، فكل ذلك بنتيجة الأمطار والثلوج وما ينزل من السماء من هذه الآيات السماوية حسب ذلك الإحكام وذلك التقدير والإتقان ، على نسق واحد يدلّ على قدرة وحيدة لقادر واحد ، فعل ذلك لخير الأرض (وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ) أي نشر وفرّق كل نوع من الدوابّ ، أي الكائن الذي يدبّ ويتحرّك على وجه الأرض أو فوقها أو تحتها. ولكلّ من الدوابّ التي بثّها فيها ، خواصّ وآثار ، بعضها نعرفه ، والبعض الآخر لم نعرفه إلى الآن ولا أدركنا سرّ وجوده ، فهو سبحانه لم يخلق خلقا عبثا ، ولا برأ شيئا من الموجودات بلا تقدير حتى في عالم الجماد فكيف بذوات الأرواح (وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ) أي تسييرها وتحويلها من جهة إلى جهة ، ودفعها من وجه إلى آخر للمصالح ومقتضياتها نفعا وانتفاعا للكثير الكثير من المخلوقات ، ولا سيّما الرياح اللّواقح التي لها آثار غريبة بالنسبة للأشجار المثمرة. فهل هذا إلّا صنع عالم قادر وحيد حكيم في كلّ ما قدّر؟ .. عميت عين لا تراه ، وصمّت أذن لا يدخلها صوت الحق ، بل زاغ قلب لم تصله أصوات جميع الممكنات التي تنادي على نفسها بنفسها أنها لا تكون بلا إله ولا توجد بلا خالق ، تعالى الله في سلطانه ، فانّ له في كل شيء آية تدلّ على أنه واحد.
أما تخصيص هذه الأمور بالذكر في هذه الآية الكريمة ، فلأنها براهين ساطعة لكل عاقل مدرك مكلّف. ومن هذه الشريفة استنبطنا أن مسألة التقليد في وجود الصانع جلّ وعلا غير جائزة مطلقا في أصول العقائد. ولا تقبل من أحد من المكلّفين ، بل لا بد لكل واحد من تحصيل العلم ، والوصول إلى المعرفة ، بواسطة الآيات التكوينية الطبيعيّة. وقد نبّه الله سبحانه وتعالى إلى ذلك في كتابه الكريم ـ في هذه الآية وفي غيرها ـ كما أن قوله صلّى الله عليه