على ما خالف ذلك ، لأنّه حريص على ابتغاء مرضاة (١) الله ، مجتهد في خلاص نفسه. و (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) (٢) ، والله لا يسأل العبد لم لا أكلت كلّ مباح ، بل يسأله لم أكلت الحرام ، ويسأله لما ذا حرّمت على نفسك ما أبحت لك مع علمك بإباحتي له ، لا مع جهلك بالإباحة. هذا مع التّسليم بأنّ الورع بالعلم أفضل وأرفع ، وذلك حال الأنبياء صلوات الله عليهم ، مع أنّ لهم فيه شرائع وطرائف كطريقة سليمان عليهالسلام في الملك والإكثار من مباحات الدّنيا ، وكطريقة عيسى عليهالسلام في السّياحة والإعراض عن الدّنيا بكلّ وجه ، وكطريقة داود في أمور ، وطريقة إبراهيم الخليل في قرى الضّيف ، وأشرف طرقهم وأفضلها طريقة نبينا صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فإنّها حنيفيّة إبراهيميّة سمحة ، سهلة ، بريئة من الغلوّ والتّعمّق والتّنطّع. اللهمّ استعملنا بها ، وأمتنا على محبّتها ، واكفنا الوقيعة في عبادك الصالحين.
فمن مناقب القبّاريّ ، رحمة الله عليه :
قال العلّامة ناصر الدّين أبو العبّاس أحمد بن المنيّر الإسكندرانيّ في «مناقب القبّاريّ» رحمة الله عليه ، وهي نحو من خمسة كراريس ، قال : كان الشّيخ في مبدئه قد حبّب إليه سماع العلم ، وبغّض إليه تناول غير ميراثه من أبيه ، فلا يذكر منذ عقل أمره أنه قبل من أحد لقمة ولا ثمرة. حتّى كان له جار في الكرم وقف به يوما وهو يبيع الرّطب ، فعرض عليه رطبة استحسنها وسأله أن يأكلها ، فقال : لا. فألحّ عليه ، وحلف عليه جاره يمينا : لا آكل لك شيئا.
فكان بعد يتأسف ويتندّم على يمينه.
قال : وكان يحضر مجالس العلم على ثقل سمعه ، فإذا انقضى الدّرس سأل من أترابه أن يعيدوا له بصوت عال كلام المدرّس.
قال : وكان قلّ أن يدعو لأحد ، بل يطلب منه الدّعاء ، فيقول للطّالب :
__________________
(١) في الأصل ، مرضات ، بالتاء المفتوحة.
(٢) سورة البقرة ، الآية ٢٨٦ آخر آية في السورة).