رغيفين ، والعطشان إذا خير بين شرب قدحين ، فإنه يختار أحدهما دون الآخر لا لمرجح. وكذلك النفس التي للفلك الأعظم ، ولسائر الأفلاك ، اختار كل واحد منها نوعا معينا من الحركة ، لا لغرض ولا لمرجح البتة.
والقول الثاني : قول من يقول : إن للفلك في حركته غرضا معينا معتبرا. وهؤلاء فرق ثلاث : منهم من يقول : ذلك الغرض : كمالات عالية ، يستفيدها من المبادي العالية لنفسه. ومنهم من يقول : ذلك الغرض عمارة هذا العالم ، وحصول نظامه. ومنهم من جمع بين الطرفين فقال : أصل حركاتها لأجل استفادة الكمالات من المبادي العالية. وأما جهات حركاتها ومقادير بطئها وسرعتها ، فلأجل مصالح هذا العالم العنصري.
وذكروا لهذا مثالا. وهو : أن رجلا كريم النفس ، كثير الخير. إذا أراد الذهاب إلى موضع لمهم له فيه. وكان إلى ذلك الموضع طريقان متساويان بالنسبة إليه من كل الوجوه. إلا أن ذهابه في أحد الطريقين ، يوجب حصول المنافع الكثيرة لطائفة من الضعفاء ، والعاجزين ، واندفاع الشرور الكثيرة عنهم. وذهابه في الطريق الثاني يوجب بطلان تلك الخيرات والمصالح ، فإن كونه في ذاته خيرا رحيما ، يقتضي أن يختار الطريق الأنفع للضعفاء ، ويترك الطريق العاري عن النفع.
فهذه أقوال ثلاثة مضبوطة.
أما القول الأول : وهو أن الغرض للفلك من هذه الحركات استفادة الكمالات وتحصيل السعادات.
فأقول : التقسيم الصحيح في هذا المقام. أن يقال : تلك الكمالات إما أن تكون جسمانية أو نفسانية. أما القسم الأول فهو المختار عند الحكماء المتأخرين. ك «أبي نصر الفارابي» و «أبي علي بن سينا». وذلك لأنهم قالوا : إن جوهر الفلك كامل في ذاته وفي جميع صفاته. ولم يبق فيه شيء بالقوة ، إلا وقد خرج إلى الفعل إلا في إيوانه وأوضاعه. فإن خروج كلها من القوة إلى الفعل محال. وإلا لزم حصول الجسم الواحد دفعة واحدة ، في أمكنة كثيرة ،