منازل الفردوس الأعلىٰ في دار النعيم .
كان هذا موقف الحسـين وأنصاره يوم الطفّ .
ووقفت زينب بنت عليّ عليهالسلام والخفيرات من أهل بيتها في مجلس ابن زياد وهم في قيد الإسـار ، وذلّ الصغار ، لا ترىٰ أمام عينها إلّا عدوّاً شـاتماً ، أو كاشـحاً (١) شـامتاً ، أو قاتلاً لحُماتها وسُـراتها ، واليتامىٰ والأيامىٰ حولها ، كلّ هذه الشـؤون والشـجون ممّا تذيب القلب ، وتذهل اللبّ ، وتطيش عندها الأحلام ، وتخرس الألسـنة ، وتموت الفطنة ، ولا يسـتطيع أجلد إنسـان أن ينبس بكلمة في مثل تلك الكوارث .
أفهل تخشـىٰ ـ لو تصوّرت مزايا تلك الرزايا لزينب ـ أن تقول : إنّ موقفها عند ابن زياد كان أعظم من موقف أنصار الحسـين يوم الطفّ عند جند ابن سـعد ؟ !
قل ولا تخف ، وعلَيَّ الإثبات .
هل أحسـسـتَ في تلك السـاعة الرهيبة من زينب أمام عدوّها القاسـي الظالم الشـامت الشـاتم أن تلجلج لسـانها ؟ ! أو اضطرب جَنانها ؟ ! أو ظهر عليها ذرّة من الذلّ والاسـتكانة ؟ ! أو خضعت فانقطعت؟ ! أو عجزت عن ارتجال الخطب البليغة التي لو جاء بها الوادع السـاكن والمطمئنّ الآمن بعد ليالٍ وأيّام لكانت آية من آيات الإبداع ، ورمزاً من رموز البراعة ؟ !
فكيف وقد اندفعت بها في حشـد الرجال علىٰ سـبيل الارتجال ،
__________________
(١) الكاشح : العدوّ المبغض الذي يضمر لك العداوة ويطوي عليها كـشْـحَـهُ ، أي : باطنه .
ٱنظر : لسان العرب ١٢ / ٩٩ مادّة « كشح » .