وقال ـ دام ظلّه ـ في موضع آخر : اعلم أن هذه النار الّتي نراها في الدنيا ليس هذا الصفا والإشراق والتلألؤ واللمعان داخلا في حقيقتها ، فإنّ ذلك كلّه مسلوب من النار الحقيقية العقلية ، ومن النار الجسمانية الأخروية ، وإنما تثبت لهذه النيران ؛ لأنها ليست نيرانا محضة ، بل فيها نار ونور ، وأمّا النار المحضة فتمامها أنها محرقة مؤذية ، فظّاعة ، نزّاعة.
قال : وكما أن حرارة الحمّى الشديدة أثر من الأخلاط الردية ، وانحراف المزاج عن الاعتدال في الطبيعة ، فكذلك شدّة حرارة نار جهنّم سببها المعاصي والأفعال السيئة ، والانحراف عن العدالة ، ونهج الشريعة.
وقال صاحب الفتوحات : وللنار أمثلة جزئية هي طبيعة كلّ واحد ، وهواه ، في أولاه وأخراه ، ولها أبواب ومشاعر هي سبعة ، وهي عين أبواب الجنّة ، فإنها على شكل الباب الّذي إذا فتح إلى موضع انسدّ به موضع آخر ، فعين غلقه لمنزل عين فتحه لمنزل آخر (١).
وهذه الأبواب مفتوحة على الفريقين : أهل النار والجنة ، إلّا باب القلب ، فإنّه مطبوع على أهل النار أبدا ، لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سمّ الخياط ؛ لأنّ صراط الله أدقّ من الشعر ، فيحتاج من يسلكه إلى كمال التلطيف والتدقيق ، وأنّى يتيسر للحمقاء الجاهلين ، خصوصا مع الاغترار والاستبداد برأيهم من غير تسليم وانقياد.
فأبواب الجحيم سبعة ، وأبواب الجنة ثمانية ، وهذا الباب الّذي لا يفتح لهم ، ولا يدخل عليه أحد منهم ، هو في السور ، فباطنه فيه الرحمة ، وظاهره من قبله العذاب ، وهي النار الّتي تطّلع على الأفئدة.
__________________
(١) ـ أنظر : الفتوحات المكية : ٣ : ٤٤١.