الذهن ، وإن كان من جهة بساطة الوجود العقلي والمثالي ، وتركّب الجسماني فقد تحقّق أن تمام كلّ ذي كثرة طبيعية إنّما هو بصورته ؛ إذ بها يصير بالفعل ، وكل ما وحدته بالفعل فكثرته بالقوة ، والإنسان الطبيعي ـ مثلا ـ أمر واحد ، وجهة وحدته بصورته النفسانية لا بأعضائه.
وكذا الشجر شجر بصورته النباتية ، حتّى لو فرضت صورته النباتية قائمة بذاتها ، مجردة عن أجزائه وعناصره ، لكانت نباتا عقليا ، أو مثاليا.
وكذا الياقوت والمرجان والذهب وغيرها من الموجودات ، فتلك الأجزاء المقدارية أجزاء لمقاديرها ، لا لحقائقها ، فالحقائق بسيطة أينما وجدت ، بل لنا أن نقول : إن وجودها الذهني على هذين الوجهين هو بعينه وجود خارجي لهما أيضا ، كما أشرنا إليه من أن المعقولات ذوات نورية مستقلّة تشاهدها النفس مشاهدة ضعيفة ، ومحكي عنها حكاية ما ، وأن الخيالات تبدعها النفس في ذاتها وعالمها ، وعالمها عالم مستقل ، كما يأتي بيانه.
وصل
وممّا يدلّ على النشأة المثالية ، ما أفاد صاحب الإشراق : من دلالة المنامات والكهانات الصادقة ، فإنّ صاحبها لا يوجد علمه بالأشياء في ذاته لذاته موافقا ، فإنّ عجزه ظاهر ، وعجز نوعه ، والنائم ليس في قواه قدرة ذلك ، ولا لنفسه ، وإلّا لكان في اليقظة أقدر على إبداعه ، ثمّ إن كان يخترع بنفسه علمه بما سيقع فينبغي أن يعلمه قبل أن يعلمه ، ليخترع جرما على وفاته ، وهذا محال ، مع أن الإنسان يعرف بالضرورة في الجملة أن الاعلام من شيء آخر ، فلا محالة هذه الأمور ثابتة في عالم آخر أعلى.