أغلب ، وهذا العالم عالم الجرم ، وذلك العالم عالم الجسم ، فالنفس في ذلك العالم تحشر في بدن جسماني (١) لا جرماني دائما ، لا يجوز عليه الفناء والدثور ، ولذته تكون دائمة لا تملها الطباع والنفوس.
وقيل لفيثاغورس : لم قلت بإبطال العالم؟ قال : لأنه يبلغ العلة التي من أجلها كان فإذا بلغها سكنت حركته ، وأكثر اللذات العلوية هي التأليفات اللحنية وذلك كما يقال : التسبيح والتقديس غذاء الروحانيين وغذاء كل موجود هو مما خلق منه ذلك الموجود.
وأما هيراقليطس (٢) وأباسيس فقد كانا من الفيثاغوريين وقالا : إن مبدأ الموجودات هو النار ، فما تكاثف منها وتحجر فهو الأرض ، وما تحلل من الأرض بالنار صار ماء ، وما تخلخل من الماء بالنار صار هواء ، وما تخلخل من الهواء بحرارة النار صار نارا ، فالنار مبدأ ، وبعدها الأرض ، وبعدها الماء ، وبعدها الهواء ، وبعدها النار ، والنار هي المبدأ (٣) وإليها المنتهى ، فمنها التكون ، وإليها الفساد.
وأما أبيقورس الذي تفلسف في أيام ديمقريطيس فكان يرى أن مبادي
__________________
(١) الفيثاغورية ، كما أوردنا ، تؤمن بالتناسخ. وهذا ما علّمه فيثاغورس وكان يقول بأن الأرواح لا تفنى وهي تنتقل في عالم الكائنات الحية من حي إلى آخر ، وأن كل كائن يظهر ويتلاشى يعود إلى الظهور في دورة معلومة مدتها ثلاثة آلاف سنة. وهكذا فلا جديد تحت الشمس ، وهكذا فكل مولود حي حلقة من سلسلة الأسرة الواحدة الشاملة. (تاريخ الفلسفة اليونانية ، بتصرف).
(٢) ظهر هيراقليس في أفسس ، ورأى أن السلطان في الكون للصيرورة الدائمة التحول ، فكل شيء يسيل ويتغير ، ورأى أن النار هي العنصر الأساسي لأنها أخف العناصر وأسرعها حركة ؛ وفي النار قوة دائمة النشاط ، واضطرام ينتج عنه العراك المستمر الذي نشهده في الوجود. وقال أيضا بمذهب امتزاج الأضداد ، وإن الواحد متألف من جميع الأشياء ، وجميع الأشياء صادرة عن الواحد ، وقد توفي سنة ٤٧٥ ق. م. (قصة الفلسفة اليونانية ص ٥٦).
(٣) كان هيراقليطس يزعم أن النار هي الأصل الأول لجميع الأشياء ، وكان يقول إن عنصر النار يتغير بالتكاثف حتى يصير هواء ، وهذا الهواء يتغير أيضا بالتكاثف حتى يصير ماء ، وكذلك عنصر الماء يصير بالتكاثف ترابا ، ثم ينعكس التغير .. وكان يقول إن هذا العالم نشأ وتركب من النار ، فليست هذه الحياة التي تدب في الأحياء وهذا النشاط العقلي الذي يميز الإنسان إلا قبسا من تلك النار ، فكلما كثرت النار في جسم ازدادت حيويته واشتد نشاطه ، وكلما أظلم الشيء أي قلّ ما فيه من نار ، كان أقرب إلى الموت وأدخل في عالم اللاوجود. (ترجمة مشاهير قدماء الفلاسفة ص ٦٣).