الموجودات (١) أجسام تدرك عقلا ، وهي كانت تتحرك من الخلاء في الخلاء. وزعم أن الخلاء لا نهاية له ، وكذلك الأجسام لا نهاية لها ، إلا أن لها ثلاثة أشياء : الشكل ، والعظم ، والثقل.
وديمقريطيس (٢) كان يرى أن لها شيئين : الشكل والعظم فقط. وذكر أن تلك الأجسام لا تتجزأ ، أي لا تنفعل ولا تتكثر ، وهي معقولة أو متوهمة غير محسوسة ، فاصطكت تلك الأجزاء في حركاتها اضطرارا واتفاقا ، فحصل من اصطكاكها صور هذا العالم وأشكالها ، وتحركت على أنحاء من جهات التحرك ، وذلك هو الذي يحكى عنهم أنهم قالوا بالاتفاق ، فلم يثبتوا لها صانعا أوجب الاصطكاك ، وأوجد هذه الصور وهؤلاء قد أثبتوا الصانع ، وأثبتوا سبب حركات تلك الجواهر ، وأما اصطكاكها فقد قالوا فيها بالاتفاق ، فلزمهم حصول العالم بالاتفاق والخبط (٣).
__________________
(١) اتفق الفلاسفة على أنه لا يصدر موجود عن معدوم ولا يؤول موجود إلى العدم لما قد صحّ بالتجربة أن الأجسام يتكون بعضها من آثار بعض ، فينتج من هذا أن لها سببا ، وهذا السبب هو الذي يسمونه مادة أولية ، واختلفوا في بيان هذه المادة الأولية فزعم أبيقورس أنها الذرات ، وزعم أن سائر الأجسام تتركب منها ، وذهب أيضا إلى أصل ثان ، وهو الفراغ ، ولكن لم يجعله أصلا لتركيب الأجسام ، وإنما كان يقول إنه أصل لحركاتها.
(٢) ولد يمقريطس في أبديرا نحو ٤٦٠ ق. م. ويقال إنه عاش قرنا كاملا وإنه كان تلميذا للوكيبوس المالطي. وقد جمعت مؤلفات المفكرين ، بعد وفاة ديمقريطس ، في مجموعة تعد موسوعة للمعارف الإنسانية في ذلك العصر ، وتدل على عمق في التفكير وسعة في المعارف قلّ نظيرهما.
ويعد لوكيبوس وديمقريطس واضعي أسس المذهب الذري ، وخلاصة آرائهما أن الكائن مركب من عدد لا نهاية له من العناصر البسيطة الثابتة الصلبة ، وأن تلك العناصر والذرات ذات صفات أساسية ثلاث هي : الشكل والتركيب والوضع. والذرات الأزلية منتشرة في الفراغ اللامتناهي انتشارا يتعادل وذلك الفراغ. والتركيبات التي تحصل عن اتحاد الذرات عارضة ، والعوالم غير المتناهية تنشأ وتزول إلى ما لا نهاية له.
(٣) كان أبيقورس يزعم أن هلاك الدنيا وزوالها يحصل بسبب من أسباب عديدة ، إما بواسطة نار كما إذا دنت الشمس جدا من الأرض فأحرقتها ، وإما بهزة مهولة تقلب جميع الأشياء ... ولكن من آثار هلاكها تتركب دنيا أخرى ، والدنيا التي نحن بها الآن هي اجتماع آثار ما بقي من حوادث مهولة وقعت في سالف الأزمان ويشهد لذلك ما يشاهد في البحار من المهاوي التي لا قاع لها وسلاسل الجبال الشامخة ، والأنهر التي تحت الأرض والبحيرات الكامنة فيها ، والمغارات والكهوف ... الخ. (ترجمة مشاهير قدماء الفلاسفة ص ١٧٢).