على هيئة أجمل وأكمل من الأول ، فإن التأليفات الأولى قد كانت ناقصة من وجه حيث كانت بالقوة ، وبالرياضة والمجاهدة في هذا العالم بلغت إلى حد الكمال خارجة من حد القوة إلى حد الفعل ، قال : والشرائع التي وردت بمقادير الصلوات والزكوات وسائر العبادات ، هي لإيقاع هذه المناسبات في مقابلة تلك التأليفات الروحانية ، وربما يبالغ في تقرير التأليف حتى يكاد يقول : ليس في العالم سوى التأليف ، والأجسام والأعراض تأليفات ، والنفوس والعقول تأليفات.
ويعسر كل العسر تقرير ذلك! نعم! تقدير التأليف على المؤلف ، والتقدير على المقدر أمر يهتدى إليه ، ويعول عليه.
وكان خرينوس وزينون (١) الشاعر متابعين لفيثاغورس على رأيه في المبدع والمبدع إلا أنهما قالا : الباري تعالى أبدع النفس والعقل دفعة واحدة ، ثم أبدع جميع ما تحتهما بتوسطهما ، وفي بدء ما أبدعهما أبدعهما لا يموتان ، ولا يجوز عليهما الدثور والفناء ، وذكرا أن النفس إذا كانت طاهرة زكية من كل دنس صارت في العالم الأعلى إلى مسكنها الذي يشاكلها ويجانسها ، وكان الجسم الذي هو من النار والهواء جسمها في ذلك العالم مهذبا من كل ثقل وكدر.
فأما الجرم الذي من الماء والأرض فإن ذلك يدثر ويفنى ، لأنه غير مشاكل للجسم السماوي ، لأن الجسم السماوي لطيف لا وزن له ولا يلمس ، فالجسم في هذا العالم مستبطن في الجرم لأنه أشد روحانية. وهذا العالم لا يشاكل الجسم بل الجرم يشاكله.
فكل ما هو مركب والأجزاء النارية والهوائية عليه أغلب ، كانت الجسمية أغلب. وكل ما هو مركب والأجزاء المائية والأرضية عليه أغلب كانت الجرمية
__________________
(١) زينون : فيلسوف يوناني : ولد في قبرص ، وهو مؤسس المذهب ال رواقي ، وعلى الرغم من المؤلفات التي كتبها ، لم يبق لنا من آثاره شيء ، اللهم إلا شذرات ضئيلة ، وكذلك الحال بالنسبة إلى بقية الرواقيين اليونانيين وإلى زينون ينسبون القول المأثور : إنما العيش هو العيش مع الطبيعة متوفى حوالي ٢٦٤ ق. م.