وكل عالم فهو دون الأول بالرتبة ، وتتفاضل العوالم بالحسن والبهاء والرتبة ، والأخير نقل العوالم وثفلها وسفلها ، ولذلك لم يجتمع كل الاجتماع ، ولم تتحد الصورة بالمادة كل الاتحاد ، وجاز على كل جزء منه الانفكاك عن الجزء الآخر ، إلا أن فيه نورا قليلا من النور الأول ، فلذلك النور وجد فيه نوع ثبات ، ولو لا ذلك لم يثبت طرفة عين. وذلك النور القليل : جسم النفس والعقل ، الحامل لهما في هذا العالم.
وذكر أن الإنسان بحكم الفطرة واقع في مقابلة العالم كله ، وهو عالم صغير ، والعالم إنسان كبير ، ولذلك صار حظه من النفس والعقل أوفر ، فمن أحسن تقويم نفسه وتهذيب أخلاقه وتزكية أحواله أمكنه أن يصل إلى معرفة العالم وكيفية تأليفه ، ومن ضيع نفسه ولم يقم بمصالحها من التهذيب والتقويم خرج من عداد العدد والمعدود ، وانحلّ عن رباط القدر والمقدور ، وصار ضياعا هملا.
وربما يقول : النفس الإنسانية (١) تأليفات عددية أو لحنية ، ولهذا ناسبت النفس مناسبات الألحان ، والتذت بسماعها وطاشت ، وتواجدت باستماعها وجاشت ، ولقد كانت قبل اتصالها بالأبدان قد أبدعت من تلك التأليفات العددية الأولى ثم اتصلت بالأبدان ، فإن كانت التهذيبات الخلقية على تناسب الفطرة ، وتجردت النفوس عن المناسبات الخارجة اتصلت بعالمها ، وانخرطت في سلكها
__________________
(١) وصل إلينا أقوال متباينة عن النفس عند الفيثاغوريين ، فنحن نجد عند أفلاطون رأيا لبعضهم يقول : إن النفس نوع من النغم ، والنغم توافق الأضداد وتناسبها بحيث تدوم الحياة ما دام هذا النغم وتنعدم بانعدامه.
فإذا كانت النفس نغما لزم من جهة أن ليس لها وجود ذاتي. والفيثاغورية تؤمن بالخلود ، ولزم من جهة أخرى أن ليس لها وجود سابق على عناصر البدن ، والفيثاغورية تؤمن بالتناسخ. على أن أرسطو إذ يذكر هذه النظرية لا يعزوها للفيثاغوريين ولكنه يضيف إليهم قولين : الأول ، أن النفس هي هذه الذرات المتطايرة في الهواء ، والتي تدق عن إدراك الحواس. ويذهب الآخر إلى أن النفس هي المبدأ الذي تتحرك به هذه الذرات ، وهو قول يخيل إلينا أن رأيهم الحق بحيث تكون النفس عندهم مبدأ أو علة توافق الأضداد في البدن وعلة حركته جميعا. (تاريخ الفلسفة اليونانية ص ٢٣).