فيجري على سنن العقل والعنصر الأول من رعاية المحبة والغلبة (١) ، فيتألف بعض النفوس بالحكمة والموعظة الحسنة ، ويشدد على بعضها بالقهر والغلبة.
فتارة يدعو باللسان من جهة المحبة لطفا ، وتارة يدعو بالسيف من جهة الغلبة عنفا. فيخلص النفوس الجزئية الشريفة التي اغترت بتمويهات النفسين المزاجيتين عن التمويه الباطل ، والتسويل الزائل القائل. وربما يكسو النفسين السافلتين كسوة النفس الشريفة ، فتنقلب الصفة الشهوية إلى المحبة ، فتغلب محبة الخير والحق والصدق ، وتنقلب الصفة الغضبية إلى الغلبة فتغلب الشر والباطل والكذب ، فتصعد النفس الجزئية الشريفة إلى عالم الروحانيين بهما جميعا ، فكانتا جسدا لها في ذلك العالم ، كما كانتا جسدا لها في هذا العالم. وقد قيل : إذا كانت الدولة والجد لأحد أحبه أشكاله ، فيغلب بمحبتهم له أضداده.
ومما نقل عن أنباذقليس أنه قال : العالم مركب من الأسطقسات الأربعة (٢) ، فإنه ليس وراءها شيء أبسط منها. وأن الأشياء كامنة بعضها في بعض.
__________________
(١) أما فيما يتصل بنشأة العالم ، فيلاحظ أن أنباذقليس قال بأن مبدأي الحركة والتغير في الوجود هما أزليان أبديان ، يتناوبان السيادة في الكون : فتارة تكون السيادة للمحبة وتارة تكون السيادة للكراهية ، وطورا تأتي حالة بين بين ، يكون فيها هذان المبدءان سائدين معا أو متنازعين. وعلى هذا الأساس توجد في العالم دورات. وكل دورة من هذه الدورات منقسمة إلى أربعة أقسام : ففي القسم الأول تكون ثمت سيادة مطلقة لمبدإ المحبة ، وفي القسم الثاني يكون هناك انتقال من سيادة مبدأ المحبة إلى سيادة مبدأ الكراهية ، ويأتي بعد هذا القسم الثالث وفيه تكون السيادة المطلقة لمبدإ الكراهية ، ويلي ذلك القسم الرابع والأخير وفيه يكون الانتقال من سيادة مبدأ الكراهية إلى سيادة مبدأ المحبة من جديد. وتتوالى الأقسام على هذا النحو باستمرار. (موسوعة الفلسفة ١ : ٢٢٨).
(٢) الأسطقس في اليونانية كالعنصر في العربية ، وهو الأصل الذي تتألف منه الأجسام المختلفة الطبائع. والأسطقسات أربعة وهي : النار والهواء والماء والتراب ، وهي تسمى بأربعة أسماء : العناصر والأسطقسات والأركان وأصول الكون والفساد. فهي من حيث تتركب منها المركبات تسمى أسطقسات ، ومن حيث أنها تنحل إليه المركبات تسمى عناصر. وقد لوحظ في إطلاق لفظ الأسطقس معنى الكون ، وفي إطلاق العنصر معنى الفساد. ومن حيث أنها أجزاء المركبات تسمى أركانا ، ومن حيث أنه ينقلب كل منهما إلى الآخر تسمى أصول الكون والفساد ، والعنصر خفيف وثقيل ، فالخفيف مطلق وهو النار ، وإلا فخفيف بالإضافة وهو الهواء ، والثقيل ، ما كانت حركته إلى الأسفل ، فإن كان جميع حركته إليه فثقيل مطلق وهو التراب ، وإلا فثقيل بالإضافة وهو الماء.