الطبيعة الكلية ما استفادت من العقل. فحصلت قشور في الطبيعة لا تشبهها ، ولا هي شبيهة بالعقل الروحاني اللطيف. فلما نظر العقل إليها وأبصر الأرواح واللبوب في الأجسام والقشور : ساح عليها من الصور الحسنة الشريفة البهية ؛ وهي صور النفوس المشاكلة للصور العقلية اللطيفة الروحانية ، حتى يدبرها ويتصرف فيها بالتمييز بين القشور واللبوب ، فيصعد باللبوب إلى عالمها ، فكانت النفوس الجزئية أجزاء للنفس الكلية كأجزاء الشمس المشرقة على منافذ البيت ، والطبيعة الكلية معلولة للنفس. وفرق بين الجزء وبين الطبيعة ، فالجزء غير المعلول.
ثم قال : وخاصية النفس الكلية : المحبة ، لأنها لما نظرت إلى العقل وحسنه وبهائه أحبته حب وامق (١) عاشق لمعشوقه ، فطلبت الاتحاد به وتحركت نحوه.
وخاصية الطبيعة الكلية : الغلبة ، لأنها لما توحدت لم يكن لها نظر وبصر تدرك بهما النفس والعقل وتعشقهما ، بل انبجست منهما قوى متضادة ، أما في بسائطها فمتضادات الأركان ؛ وأما في مركباتها فمتضادات القوى المزاجية والطبيعية ، والنباتية ، والحيوانية. والطبيعية تمردت عليها لبعدها من العلة بكونها معلولة عن كلياتها ، وطاوعتها الأجزاء النفسانية مغترة بعالمها الغرار الغدار ، فركنت إلى لذات حسية : من مطعم مري ، ومشرب هني ، وملبس طري ، ومنكح شهي ، ونسيت ما قد طبعت عليه من ذلك البهاء والحسن والكمال الروحاني النفساني العقلي فلما رأت النفس الكلية تمردها واغترارها أهبطت إليها جزءا من أجزائها ، هو أزكى وألطف وأشرف من هاتين النفسين البهيمية والنباتية. ومن تلك النفوس المغترة بهما. فيكسر النفسين عن تمردهما ، ويحبب إلى النفوس المغترة عالمها ، ويذكرها بما نسيت ، ويعلمها ما جهلت ، ويطهرها مما تدنست فيه ، ويزكيها عما تنجست به. وذلك الجزء الشريف هو النبي المبعوث في كل دور من الأدوار ،
__________________
(١) الوامق : المحب ، والتومّق : التودّد ، وفي الحديث : أنه اطلع من وافد قوم على كذبة فقال : لو لا سخاء فيك ومقك الله عليه لشرّدت بك ، أي أحبك الله عليه.