الهيولى لا تحمل القبول دفعة واحدة إلا بترتيب وزمان فحدثت تلك الصور فيها على الترتيب. ولم يزل الأمر كذلك في العالم بعد العالم على قدر طبقات تلك العوالم ؛ حتى قلت أنوار الصور في الهيولى ، وقلت الهيولى ، وصارت منها هذه الصورة الرذلة الكثيفة التي لم تقبل نفسا روحانية ، ولا نفسا حيوانية ، ولا نباتية.
وكل ما هو على قبول حياة وحس فهو يعد في آثار تلك الأنوار.
وكان يقول : إن هذا العالم يدثر ويدخله الفساد والعدم من أجل أنه سفل تلك العوالم وثقلها. ونسبتها إليه نسبة اللب إلى القشر ، والقشر يرمى. قال : وإنما ثبات هذا العالم بقدر ما فيه من قليل نور ذلك العالم ، وإلا لما ثبت طرفة عين. ويبقى ثباته إلى أن يصفي العقل جزأه الممتزج به ، وإلى أن تصفي النفس جزأها المختلط فيه. فإذا صفى الجزءان عنه دثرت أجزاء هذا العالم وفسدت وبقيت مظلمة قد عدمت ذلك القليل من النور فيها ، وبقيت الأنفس الدنسة الخبثة في هذه الظلمة بلا نور ولا سرور ، ولا روح ولا راحة ، ولا سكون ولا سلوة.
ونقل عنه أيضا أن أول الأوائل من المبدعات هو الهواء (١) ، ومنه تكون جميع ما تكون في العالم من الأجرام العلوية والسفلية.
قال : ما كون من صفو الهواء المحض لطيف روحاني لا يدثر ولا يدخل عليه الفساد ، ولا يقبل الدنس والخبث ، وما كون من كدر الهواء كثيف جسماني يدثر ويدخله الفساد ويقبل الدنس والخبث. فما فوق الهواء من العوالم فهو من صفوه ، وذلك عالم الروحانيات. وما دون الهواء من العوالم فهو من كدره ، وذلك عالم
__________________
(١) إذا كان الماء الذي فرضه طاليس أصلا للكون لم يصادف من العقل اطمئنانا لأنه ليس من الشمول بحيث يسع الكون بأسره ، وإذا كانت مادة أنكسيماندريس التي ليس لها شكل ولا حدود لم تسلم من النقد. فقد نهض أنكسيمانس واختار مادة ثالثة فيها الشمول الذي ينقص الماء وفيها الصفات التي تعوز مادة أنكسيمادريس ، ألا وهي الهواء فهو ذو صفات معروفة لا تنكر ، وهو في نفس الوقت يشيع في كل أنحاء الوجود يغلف الأرض ويملأ في نظره جوانب السماء.