وهو الدهر المحض من نحو آخره لا من نحو أوله ، وإليه تشتاق العقول والأنفس ، وهو الذي سميناه الديمومة والسرمد ، والبقاء في حد النشأة الثانية (١).
فظهر بهذه الإشارات أنه إنما أراد بقوله : الماء هو المبدع الأول ، أي هو مبدأ التركيبات الجسمانية لا المبدأ الأول في الموجودات العلوية ، لكنه لما اعتقد أن العنصر الأول هو قابل كل صورة ، أي منبع الصور كلها ، فأثبت في العالم الجسماني له مثالا يوازيه في قبول الصور كلها ، ولم يجد عنصرا على هذا النهج مثل الماء ، فجعله المبدع الأول في المركبات ، وأنشأ منه الأجسام والأجرام السماوية والأرضية.
وقال في التوراة في السفر الأول منها أن مبدأ الخلق هو جوهر خلقه الله تعالى ، ثم نظر إليه نظرة الهيبة فذابت أجزاؤه فصارت ماء ، ثم ثار من الماء بخار مثل الدخان ، فخلق منه السموات ، وظهر على وجه الماء زبد مثل زبد البحر فخلق منه الأرض ثم أرساها بالجبال ، وكأن تاليس الملطي إنما تلقى مذهبه من هذه المشكاة النبوية.
والذي أثبته من العنصر الأول الذي هو منبع الصور شديد الشبه باللوح المحفوظ المذكور في الكتب الإلهية ، إذ فيه جميع أحكام المعلومات ، وصور جميع الموجودات ، والخبر عن الكائنات.
والماء على القول الثاني شديد الشبه بالماء الذي عليه العرش (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) (٢).
__________________
(١) وكان أول من قال من الروم أن الأرواح غير فانية بل هي أزلية باقية. وقد دخل عليه رجل من أهل مليطية وسأله : هل يمكن أن تخفى أسرارنا على الآلهة؟ فقال له طاليس : لا تظن هذا أبدا لأن جميع الأسرار الخفية لا تخفى على الإله الحكيم. وكان يزعم أن الموت والحياة مستويان دائما فسئل : لأي سبب لم تقتل نفسك؟ فأجاب بقوله : حيث كان الموت والحياة مستويين فما يحملني على إيثار الموت على الحياة. وكان يقول : إن الذي يسلينا عند حلول المصيبة من أحد علمنا بأن الذي أذانا بها هو أشقى منا وأسوأ حالا منا. (ترجمة مشاهير قدماء الفلاسفة ص ٥).
(٢) سورة هود : الآية ٧.