ويتعالى الأول الحق بوحدانيته وهويته عن أن يوصف بما يوصف به مبدعه ، ومن العجب أنه نقل عنه أن المبدع الأول هو الماء (١). قال : الماء قابل لكل صوره ، ومنه أبدع الجواهر كلها من السماء والأرض ، وما بينهما ، وهو علة كل مبدع ، وعلة كل مركب من العنصر الجسماني. فذكر أن من جمود الماء تكونت الأرض ، ومن انحلاله تكون الهواء ، ومن صفوة الهواء تكونت النار ، ومن الدخان والأبخرة تكونت السماء ، ومن الاشتعال الحاصل من الأثير تكونت الكواكب ، فدارت حول المركز دوران المسبب على سببه بالشوق الحاصل إليه، قال : والماء ذكر ، والأرض أنثى ، وهما يكونان سفلا ، والنار ذكر ، والهواء أنثى وهما يكونان علوا.
وكان يقول : إن هذا العنصر الذي هو أول وهو آخر ـ أي هو المبدأ وهو الكمال هو عنصر الجسمانيات والجرميات ، لا أنه عنصر الروحانيات البسيطة ، ثم إن هذا العنصر له صفو وكدر ، فما كان من صفوه فإنه يكون جسما ، وما كان من كدره فإنه يكون جرما فالجرم يدثر ، والجسم لا يدثر ، والجرم كثيف ظاهر ، والجسم لطيف باطن ، وفي النشأة الثانية يظهر الجسم ويدثر الجرم ، ويكون الجسم اللطيف ظاهرا والجرم الكثيف داثرا.
وكان يقول : إن فوق السماء عوالم مبدعة لا يقدر المنطق أن يصف تلك الأنوار ، ولا يقدر العقل أن يقف على إدراك ذلك الحس والبهاء ، وهي مبدعة من عنصر لا يدرك غوره ، ولا يبصر نوره ، والمنطق والنفس والطبيعة تحته ودونه ،
__________________
(١) الماء عند طاليس هو المادة الأولى والجوهر الأوحد الذي تتكون منه الأشياء ، وعنه صدرت الكائنات وإليه تعود ، وقد ملأ عليه الماء شعاب فكره حتى خيل إليه أن الأرض قرص متجمد يسبح فوق لجج مائية ، ليس لأبعادها نهاية. وقد دعم رأيه بالدليل فقال : إن النبات والحيوان يغتذي بالرطوبة ، ومبدأ الرطوبة الماء ، فما منه يغتذي الشيء فهو يتكون منه بالضرورة ، ثم إن النبات والحيوان يولد من الرطوبة ، فإن الجراثيم الحية رطبة ، وما منه يولد الشيء فهو مكون منه. (قصة الفلسفة اليونانية ص ٢١ وانظر الرازي ٦ : ١١٥).