وأما الحكمة الفعلية فكل ما يفعله الحكيم لغاية كمالية.
فالأول الأزلي لما كان هو الغاية والكمال ، فلا يفعل فعلا لغاية دون ذاته ، وإلا فيكون الغاية والكمال هو الحامل ، والأول محمول ، وذلك محال.
فالحكمة في فعله وقعت تبعا لكمال ذاته ، وذلك هو الكمال المطلق في الحكمة ، وفي فعل غيره من المتوسطات وقعت مقصودا للكمال المطلوب ، وكذلك في أفعالنا.
ثم إن الفلاسفة اختلفوا في الحكمة القولية العقلية اختلافا لا يحصى كثرة. والمتأخرون منهم خالفوا الأوائل في أكثر المسائل (١) ، وكانت مسائل الأولين محصورة في الطبيعيات ، والإلهيات. وذلك هو الكلام في الباري تعالى والعالم. ثم زادوا فيها الرياضيات.
وقالوا : العلم ينقسم إلى ثلاثة أقسام : علم ما ، وعلم كيف ، وعلم كم. فالعلم الذي يطلب فيه ماهيات الأشياء هو العلم الإلهي. والعلم الذي يطلب فيه كيفيات الأشياء هو العلم الطبيعي. والعلم الذي يطلب فيه كميات الأشياء هو العلم الرياضي ، سواء كانت الكميات مجردة عن المادة ، أو كانت مخالطة بعد ؛ فأحدث بعدهم أرسطوطاليس (٢) الحكيم علم المنطق وسماه تعليمات ، وإنما هو جرده من
__________________
(١) مرت الفلسفة اليونانية بأربع مراحل :
ـ المرحلة الأولى : من طاليس إلى سقراط وهي مرحلة العمل الكوسمولوجي الذي اهتم فيه الحكماء لنشأة العالم وتكوينه وعناصره.
ـ المرحلة الثانية : سقراط أفلاطون ، أرسطو وهي مرحلة العمل الطبيعي السيكولوجي الذي لا يخلو من نظرات ماورائية.
ـ المرحلة الثالثة : من وفاة أرسطو إلى نشأة الأفلاطونية الحديثة وهي مرحلة العمل الخلقي الأدبي.
ـ المرحلة الرابعة : الأفلاطونية الحديثة ، وهي مرحلة العمل الديني الصوفي.
(٢) أرسطوطاليس : هو أعظم فيلسوف جامع لكل فروع المعرفة الإنسانية في تاريخ البشرية كلها. يمتاز على أستاذه أفلاطون بدقة المنهج واستقامة البراهين والاستناد إلى التجربة الواقعية. وهو واضع علم المنطق كله تقريبا. من هنا لقب ب «المعلم الأول» و «صاحب المنطق».