أجابت الحنفاء :
بأن الكلام في المراتب صعب ، ومن لم يصل إلى رتبة من المراتب كيف يمكنه أن يستوفي بيانها؟.
لكنا نعرف أن رتبته بالنسبة إلينا : رتبتنا بالنسبة إلى من هو دوننا في الجنس من الحيوان. فكما أنا نعرف أننا في الموجودات ولا يعرفها الحيوان ، كذلك هم يعرفون خواص الأشياء وحقائقها ، ومنافعها ومضارها ، ووجوه المصالح في الحركات ، وحدودها وأقسامها ونحن لا نعرفها.
وكما أن نوع الإنسان ملك الحيوان بالتسخير ، فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام ملوك الناس بالتدبير ، وكما أن حركات الناس معجزات الحيوان ، كذلك حركات الأنبياء معجزات الناس ، لأن الحيوانات لا يمكنها أن تبلغ إلى الحركات الفكرية حتى تميز الحق من الباطل ولا أن تبلغ إلى الحركات القولية حتى تميز الصدق من الكذب. ولا أن تبلغ إلى الحركات الفعلية حتى تميز الخير من الشر. فلا التمييز العقلي لها بالوجود ، ولا مثل هذه الحركات لها بالفعل. وكذلك حركات الأنبياء ، لأن منتهى فكرهم لا غاية له ، وحركات أفكارهم في مجال القدس مما تعجز عنها قوة البشر حتى يسلم لهم : «لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ، ولا نبي مرسل» ، وكذلك حركاتهم القولية والفعلية لا تبلغ إلى غاية انتظامها وجريانها على سنن الفطرة حركة كل البشر ، وهم في الرتبة العليا ، والدرجة الأولى من درجات الموجودات كلها. فقد أحاطوا علما بما أطلعهم الرب تعالى على ذلك دون غيرهم من الملائكة والروحانيين. ففي الأول تكون حاله حال التعلم (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) (١) وفي الأخير حاله حال
__________________
ـ بكثير من دقائق العلم ولا يستحق شيئا من الثواب فضلا عن أن يكون ثوابه أكثر وفضله أكبر ، فإن كثرة الثواب وعظيم الفضل إنما تحصل بحسب الإخلاص في الأفعال ، ولم نعلم أن إخلاص الملائكة أكثر. (الرازي ١ : ٣٠٧ ـ ٣١٠).
(١) سورة النجم : الآية ٥.