وأما الطريق الثاني : فإقامة الحجة على إثبات المذهب ، ولمتكلمي الحنفاء فيه مسلكان :
أحدهما : أن يسلك الطريق نزولا من أمر الباري تعالى إلى سد حاجات الخلق.
والثاني : أن يسلك الطريق صعودا من حاجات الخلق إلى إثبات أمر الباري تعالى ، ثم يخرج الإشكالات عليهما.
أما الأول فقال المتكلم الحنيف : قد قامت الحجة على أن الباري تعالى خالق الخلائق ورازق العباد ، وأنه المالك الذي له الملك والملك. والمالك هو أن يكون له على عباده أمر وتصريف ، وذلك أن حركات العباد قد انقسمت إلى اختيارية ، وغير اختيارية. فما كان منها باختيار من جهتهم فيجب أن يكون للمالك فيها حكم وأمر. وما كان منها بلا اختيار فيجب أن يكون له فيها تصريف وتقدير. ومن المعلوم أن ليس كل أحد يعرف حكم الباري تعالى وأمره. فلا بد إذن من واحد يستأثره بتعريف حكمه وأمره في عباده (١). وذلك الواحد يجب أن يكون من جنس البشر حتى يعرّفهم أحكامه وأوامره. ويجب أن يكون مخصوصا من عند الله عزوجل بآيات خلقية هي حركات تصريفية وتقديرية ، يجريها الله على يده عند التحدي بما يدعيه ، تدل تلك الآيات على صدقه ، نازلة منزلة التصديق بالقول ثم إذا ثبت صدقه وجب اتباعه في جميع ما يقول ويفعل ، وليس يجب الوقوف على كل ما يأمر به وينهى عنه ، إذ ليس كل علم إليه تبلغ قوة البشر.
__________________
(١) لا بدّ المعاملة من سنّة وعدل ، ولا بدّ للسنّة والعدل من سان وعادل ولا بدّ أن يكون هذا بحيث يجوز أن يخاطب الناس ويلزمهم السنّة ، ولا بدّ من أن يكون هذا إنسانا ، ولا يجوز أن تترك الناس وآراؤهم في ذلك فيختلفون ويرى كل منهم ما له عدلا وما عليه ظلما ، فالحاجة إلى هذا الإنسان في أن يبقي نوع الناس ويتحصل وجوده ، ووجود الإنسان الصالح لأن يسن ويعدل ممكن ، ووجوده ضروري لتمهيد نظام الخير ، وواجب أن يكون إنسانا ، وواجب أن يكون له خصوصية ليست لسائر الناس ، حتى يستشعر الناس فيه أمرا لا يوجد لهم فيتميز به عنهم ، فتكون له المعجزات ، وإذا وجد وجب أن يسن للناس في أمورهم سننا بأمر الله تعالى وإذنه ووحيه وإنزاله الروح القدس عليه فيكون الأصل فيما يشبه تعريفه إياهم أن لهم صانعا واحدا قادرا ، وأنه عالم بالسر والعلانية وأنه من حقه أن يطاع أمره .. (انظر النجاة ص ٤٩٩).