أجابت الحنفاء بجوابين :
أحدهما : نيابة عن جنس البشر. والثاني : نيابة عن الأنبياء عليهمالسلام.
أما الأول فنقول : اختيار الروحانيات إذا كان مقصورا على أحد الطرفين محصورا : كان في وضعه مجبورا ، ولا شرف في الجبر. واختيار البشر تردد بين طرفي الخير والشر. فمن جانب يرى آيات الرحمن ، ومن طرف يسمع وساوس الشيطان ، فتميل به تارة دعوة الحق إلى امتثال الأمر ، وتميل به طورا داعية الشهوة إلى اتباع الهوى. فإذا أقر طوعا وطبعا بوحدانية الله تعالى ، واختار من غير جبر وإكراه طاعته ، وصير اختياره المتردد بين الطرفين مجبورا تحت أمره تعالى باختيار من جهته من غير إجبار : صار هذا الاختيار أفضل وأشرف من الاختيار المجبور فطرة ، كالمكره فعله : كسبا ، الممنوع عما لا يجب جبرا. ومن لا شهوة له فلا يميل إلى المشتهى ، كيف يمدح عليه؟ وإنما المدح كل المدح لمن زين له المشتهى فنهى النفس عن الهوى (١) ، فتبين أن اختيار البشر أفضل من اختيار الروحانيات.
وأما الثاني : فنقول : إن اختيار الأنبياء عليهمالسلام مع ما أنه ليس من جنس اختيار البشر من وجه ، فهو متوجه إلى الخير ، مقصور على الصلاح الذي به نظام العالم وقوام الكل ، صادر عن الأمر ، صائر إلى الأمر ، لا يتطرق إلى اختيارهم ميل إلى الفساد ، بل ودرجتهم فوق ما يبتدر إلى الأوهام ، فإن العالي لا يريد أمرا لأجل السافل ، من حيث هو سافل ، بل إنما يختار ما يختار لنظام كلي ، وأمر أعلى من الجزئي ، ثم يتضمن ذلك حصول نظام في الجزئي تبعا لا مقصودا ، وهذا الاختيار والإرادة على جهة سنّة الله تعالى في اختياره ومشيئته للكائنات ، لأن مشيئته تعالى كلية متعلقة بنظام الكل ، غير معللة بعلة ، حتى لا يقال إنما اختار هذا لكذا ، وإنما فعل هذا لكذا. فلكل شيء علة ، ولا علة لصنعه تعالى ، بل لا يريد إلا كما علم ، وذلك أيضا ليس بتعليل ، لكنه بيان أن إرادته أعلى من أن تتعلق بشيء لعلة دونها ، وإلا لكان ذلك الشيء حاملا
__________________
(١) نهى النفس عن الهوى : زجرها وكفّها عن الميل والشهوات ، وضبطها بالصبر على إيثار الخيرات ، ولم يعتد بمتاع الدنيا ، ولم يغتر بزخارفها وزينتها.