ما رشح له. بل ومجموع جسده ونفسه : مجمع آثار العالمين من الروحانيات والجسمانيات. وزيادة أمرين ، أحدهما : ما حصل له من فائدة التركيب والترتيب ، كما بينا من مثال السكر والخل. والثاني : ما أشرق عليه من الأنوار القدسية : وحيا وإلهاما ، ومناجاة ، وإكراما.
فأين للروحاني هذه الدرجة الرفيعة ، والمقام المحمود ، والكمال الموجود؟
بل ومن أين للروحانيات كلها هذا التركيب الذي خص نوع الإنسان به؟.
وما تعلقوا به من القوة البالغة على تحريك الأجسام ، وتصريف الأجرام ، فليس يقتضي شرفا. فإن ما يثبت لشيء ويثبت لضده مثله لم يتضمن شرفا. ومن المعلوم أن الجن والشياطين قد ثبت لهم من القوة البالغة والقدرة الشاملة ما يعجز كثير من الموجودات عن ذلك. وليس ذلك مما يوجب شرفا وكمالا ، وإنما الشرف في استعمال كل قوة فيما خلقت له ، وأمرت به ، وقدرت عليه.
قالت الصابئة :
الروحانيات لها اختيارات صادرة من الأمر ، متوجهة إلى الخير ، مقصورة على نظام العالم ، وقوام الكل. لا يشوبها البتة شائبة الشر ، وشائبة الفساد ، بخلاف اختيار البشر فإنه متردد بين طرفي الخير والشر (١) لو لا رحمة الله في حق البعض ، وإلا فوضع اختيارهم كان ينزع إلى جانب الشر والفساد ، إذ كانت الشهوة والغضب المركوزتان فيهم يجرانهم إلى جانبهما ، وأما الروحانيات فلا ينازع اختيارهم إلا التوجه إلى وجه الله تعالى ، وطلب رضاه ، وامتثال أمره ، فلا جرم كل اختيار هذا حاله لا يتعذر عليه ما يختاره. فكما أراد واختار ، وجد المراد وحصل المختار ، وكل اختيار ذلك حاله تعذر عليه ما يختاره ، فلا يوجد المراد ، ولا يحصل المختار.
__________________
(١) هذا الأمر يدل على أن الملائكة كالمجبورين على طاعتهم والأنبياء مترددة بين الطرفين ، والمختار أفضل من المجبور ، وهذا ضعيف ، لأن التردد ما دام يبقى استحال صدور الفعل وإذا حصل الترجيح التحق بالموجب ، فكان للأنبياء خيرات بالقوة وبواسطة الملائكة تصير خيرات بالفعل ، أما الملائكة فهم خيرات بالفعل ، فأين هذا من ذاك. (الرازي ١ : ٣٠٩).