ثم للنفس الإنسانية قوى عقلية لا جسمانية (١) ، وكمالات نفسانية روحانية لا جسدانية. فمن قواها ما لها بحسب حاجتها إلى تدبير البدن ، وهي القوة التي تختص باسم العقل العملي ، وذلك أن تستنبط الواجب فيما يجب أن يفعل ولا يفعل. ومن قواها ما لها بحسب حاجتها إلى تكميل جوهرها عقلا بالفعل ، وإنما يخرج من القوة إلى الفعل بمخرج غير ذاتها لا محالة ، فيجب أن يكون لها قوة استعدادية تسمى عقلا هيولانيا ، حتى يقبل من غيرها ما به يخرجها من الاستعداد إلى الكمال. فأول خروج لها إلى الفعل حصول قوة أخرى من واهب الصور يحصل لها عند استحضارها المعقولات الأول ، فيتهيأ بها لاكتساب الثواني : إما بالفكر ، وإما بالحدس ، فيتدرج قليلا قليلا إلى أن يحصل لها ما قدر لها من المعقولات ، ولكل نفس استعداد إلى حد ما لا يتعداه ، ولكل عقل حدّ ما لا يتخطاه ، فيبلغ إلى كماله المقدر له ، ويقتصر على قوته المركوزة فيه ، ولا يتبين هاهنا وجود التضادّ بين النفوس والعقول ، ووجوب الترتب فيها.
وإنما يعرف مقادير العقول ومراتب النفوس : الأنبياء والمرسلون الذين اطلعوا على الموجودات كلها : روحانياتها وجسمانياتها ، معقولاتها ومحسوساتها ، كلياتها وجزئياتها ، علوياتها وسفلياتها ، فعرفوا مقاديرها ، وعينوا موازينها ومعاييرها.
وكل ما ذكرناه من القوى الإنسانية فهي حاصلة لهم ، مركبة فيهم ، منصرفة كلها عن جانب الغرور إلى جانب القدس ، مستديمة الشروق بنور الحق فيها ، حتى كأن كل قوة من القوى الجسدانية والنفسانية ملك روحاني موكل بحفظ ما وجه إليه ، واستتمام
__________________
(١) والقوة العقلية لو كانت تعقل بالآلة الجسدانية حتى يكون فعلها الخاص إنما يتم باستعمال تلك الآلة الجسدانية لكان يجب أن لا تعقل ذاتها وأن لا تعقل الآلة ولا أن تعقل أنها عقلت ، فإنه ليس بينها وبين ذاتها آلة ، وليس بينها وبين آلتها ولا بينها وبين أنها عقلت آلة لكنها تعقل ذاتها وآلتها التي تدعى آلتها وأنها عقلت فإذا إنما تعقل بذاتها لا بالآلة ... الخ.
ثم أنه أخذ بعد هذا في إيراد براهين على أن تعقل القوة العقلية ليس بالآلة الجسدية. (النجاة ص ٢٩٢).