والسادسة : القوة الذاكرة (١) ؛ وهي التي تستعرض ما في الخزانة على جانب العقل أو على الخيال والوهم. وآلتها الروح المصبوب في آخر البطن المؤخر من الدماغ.
وأما المعقول الصرف المبرأ عن الشوائب المادية ، فلا يحل في قوة جسمانية وآلة جسدانية ، حتى يقال ينقسم بانقسامها ، ويتحقق لها وضع ومثال ، ولهذا لم يكن القوة الحافظة خزانة لها ، بل المصدر الأول الذي أفاض عليها تلك الصورة صار خازنا لها ، فحيثما طالعته النفس الإنسانية بقوتها العقلية المناسبة لواهب الصور نوعا من المناسبة فاضت منه عليها تلك الصور المستحفظة له ، حتى كأنه ذكرها بعد ما نسيت ، ووجدها بعد ما ضلت عنه.
وغريزة النفس الصافية تنزع إلى جانب القدس في تذكار الأمور الغائبة عن حضرة العقل نزاعا طبيعيا ، فتستحضر ما غاب عنها ، ولهذا السر أخبر الكتاب الإلهي (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً) (٢) حتى صار كثير من الحكماء إلى أن العلوم كلها تذكار ، وذلك أن النفوس كانت في البدء الأول في عالم الذكر ، ثم هبطت إلى عالم النسيان ، فاحتاجت إلى مذكرات لما قد نسيت ، معيدات إلى ما كانت قد ابتدأت (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (٣) * وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) (٤).
__________________
(١) الذاكرة. وسلطانها في حيز الروح الذي في التجويف الأخير وهو آلتها. وهي حافظة للمعاني ومعينة للوهم بالحفظ ، ويسميها قوم ذاكرة لأن الذكر لا يتم إلا بها ، وحفظ المعاني مغاير لاسترجاعها بعد زوالها.
والاسترجاع هو طلب تلك الملاحظة بالفكر ، فالذاكرة إذا ليست قوة بسيطة بل مبدأ ، هي فعل يتركب من أفعال قوتين مدركة وحافظة ، والمسترجعة مبدأ فعل يتركب من أفعال ثلاث قوى : متصرفة ومدركة وحافظة. (شرح الإشارات ص ١٤٥).
(٢) سورة الكهف : الآية ٢٤.
(٣) سورة الذاريات : الآية ٥٥.
(٤) سورة إبراهيم : الآية ٥.