المركوزة فيه ، وهي الحواس الخمس. فبالقوة الباصرة تدرك الألوان والأشكال. وبالقوة السامعة تدرك الأصوات والكلمات. وبالقوة الشامة تدرك الروائح. وبالقوة الذائقة تدرك المطعومات. وبالقوة اللامسة تدرك الملموسات. وله فروع من قوى منبثة في أعضاء البدن ، حتى إذا أحس بشيء من أعضائه ، أو تخيل ، أو توهم ، أو اشتهى ، أو غضب ، ألفى العلاقة التي بينه وبين تلك الفروع هيئة فيه حتى يفعل ، وله إدراك وقوة تحريك.
أما الإدراك فهو أن يكون مثال حقيقة المدرك : متمثلا مرتسما في ذات المدرك ، غير مباين له. ثم المثال قد يكون مثال صورة الشيء ، وقد يكون مثال حقيقته. ومثال صورة الشيء هو ما يكون محسوسا ، فيرتسم في القوة الباصرة وقد غشيته غواش (١) غريبة عن ماهيته ، لو أزيلت عنه لم تؤثر في كنه ماهية ، مثل : أين ، وكيف ، ووضع ، وكم معينة ، لو توهم بدلها غيرها لم يؤثر في ماهية ذلك المدرك ، والحس يناله من حيث هو مغمور في هذه العوارض التي تلحقه بسبب المادة ، لا يجردها عنه ، ولا يناله إلا بعلاقة وضعية بين حسه ومادته.
ثم الخيال الباطن يتخيله مع تلك العوارض التي لا يقدر على تجريده المطلق عنها ، لكنه يجرده عن تلك العلائق الوضعية التي تعلق بها الحس فهو يتمثل صورة مع غيبوبة حاملها. وعنده مثال العوارض ، لا نفس العوارض. ثم الفكر العقلي يجرده عن تلك العوارض. فيعرض ماهيته وحقيقته على العقل ، فيرتسم فيه مثال حقيقته حتى كأنه عمل بالمحسوس عملا جعله معقولا (٢). وأما ما هو بريء في ذاته عن الشوائب (٣)
__________________
(١) الغواشي ، الواحدة غاشية : وهي الغطاء ، ومنه قوله تعالى في سورة يس : الآية ٩ : (فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ).
(٢) بعد ما فرغ من بيان معنى الإدراك أراد أن ينبه على أنواعه ، وأنواع الإدراك أربعة : إحساس وتخيل وتوهم وتعقل. (إشارات ابن سينا).
(٣) فزيد لا يباين عمرا في إنسانيته ، وإنما يباينه في شخصه المادي وما تلتزمه المادة من الأحوال : كالأين والكيف وغيرهما ... ـ