ومحل الحيوانية : القلب ، ومنه مبدأ تدبير الحس والحركة ، وعن هذا فتح منه عروق إلى الدماغ. فيصعد إلى الدماغ من حرارته ما يعدل تلك البرودة ، وينزل منه من آثاره ما يدبر به الحركة.
ومحل الإنسانية تصريفا وتدبيرا : الدماغ ، ومنه مبدأ الفكر ، والتعبير عن الفكر وعن هذا فتحت إليه أبواب الحواس مما يلي هذا العالم ، وفتحت إليه أبواب المشاعر مما يلي ذلك العالم وهاهنا ثلاثة أعضاء ممدات لا بد منها : المعدة التي تمد الكبد بالغذاء والرئة التي تمد القلب بترويح الهواء. والعروق التي تمد الدماغ بالحرارة.
فإذن التركيب الإنساني أشرف التراكيب ، فإن فيه جميع آثار العالم الجسماني والروحاني. وتركيب القوى فيه أكمل التراتيب : فهو مجمع آثار الكونين والعالمين. فكل ما هو في العالم منتشر ففيه مجتمع. وكل ما هو فيه من خواص الاجتماع ، فليس للعالم البتة ، لأن للاجتماع والتركيب خاصية لا توجد في حال الافتراق والانحلال واعتبر فيه حال السكر والخل ، وحال السكنجبين (١) ، وكذلك الحكم في كل مزاج.
هذا وجه تركيب البدن. وترتيب القوى الخاصة به.
وأما وجه اتصال النفس به ، وترتيب القوى الخاصة بها مما يلي هذا العالم ، ومما يلي ذلك العالم ؛ فاعلم أن النفس الإنسانية جوهر (٢) هو أصل القوى المحركة ، والمدركة ، والحافظة للمزاج : تحرك الشخص بالإرادة ، لا في جهات ميله الطبيعي. وتتصرف في أجزائه ، ثم في جملته. وتحفظ مزاجه عن الانحلال ، وتدرك بالمشاعر
__________________
(١) السكنجبيون ، معرب عن سركه انگبين انكبين الفارسي ومعناه : خل وعسل.
(٢) أخذ في بيان القوى النفسية ، وإنها تنقسم إلى مدركة ومحركة. وقدم المدركة ، لأن الحركة الاختيارية لا توجد إلا عند الشعور بمطلوب أو مهروب عنه. فيكون التحريك متفرعا عن الإدراك متأخرا عن الشعور. والإدراك أشرف من الحركة لأنه قد يكون مطلوبا لذاته كما في الإنسان والحركة لا تكون البتة مطلوبة إلا لغيرها ، وإدراك الشيء هو أن تكون حقيقة متمثلة عند المدرك ينشأ عنها ما به يدرك ، سواء أكانت تلك الحقيقة لا وجود لها في الأعيان الخارجة ، مثل كثير من الأشكال الهندسية ، بل كثير من المفروضات ، وإما أن تكون حقيقة مرتسمة في ذات المدرك ، غير مباين له ، وهذا ما رآه ابن سينا في إشاراته.