أما العلم فلا ينكر إحاطتهم بمغيبات الأمور عنا ، واطلاعهم على مستقبل الأحوال الجارية علينا ، ولأن علومهم كلية ، وعلوم الجسمانيات جزئية ، وعلومهم فعلية ، وعلوم الجسمانيات انفعالية. وعلومهم فطرية ، وعلوم الجسمانيات كسبية. فمن هذه الوجوه تحقق لها الشرف على الجسمانيات.
وأما العمل فلا ينكر أيضا عكوفهم على العبادة ، ودوامهم على الطاعة (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) (١) لا يلحقهم كلال ولا سآمة ، ولا يرهقهم ملال ولا ندامة.
فتحقق لها الشرف أيضا بهذا الطرف. وكان أمر الجسمانيات بالخلاف من ذلك.
أجابت الحنفاء عن هذا بجوابين :
أحدهما : التسوية بين الطرفين ، وإثبات زيادة في جانب الأنبياء عليهمالسلام.
والثاني : بيان ثبوت الشرف في غير العلم والعمل.
أما الأول : فإنهم قالوا : علوم الأنبياء عليهمالسلام كلية وجزئية ، وفعلية وانفعالية ، وفطرية وكسبية. فمن حيث تلاحظ عقولهم عالم الغيب منصرفة عن عالم الشهادة تحصل لهم العلوم الكلية فطرة ودفعة واحدة. ثم إذا لاحظوا عالم الشهادة حصلت لهم العلوم الجزئية اكتسابا بالحواس على ترتيب وتدريج. فكما أن للإنسان علوما نظرية هي المعقولات ، وعلوما حاصلة بالحواس عن المحسوسات ؛ فعالم المعقولات بالنسبة إلى الأنبياء كعالم المحسوسات بالنسبة إلى سائر الناس. فنظرياتنا فطرية لهم ، ونظرياتهم لا نصل إليها قط. بل ومحسوساتنا مكتسبة لهم ، ولنا بكواسب
__________________
ـ ولا سهو العقول ، ولا غفلة الأبدان ، طعامهم التسبيح وشرابهم التقديس والتمجيد ، فهم متجردون من العلائق البدنية ، غير محجوبين بشيء من القوى الشهوانية والغضبية فأين أحد القسمين من الآخر.
والاعتراض هو أن المواظب على تناول الأغذية اللطيفة لا يلتذ بها كما يلتذ المبتلي بالجوع أياما. والملائكة بسبب مواظبتهم على تلك الدرجات العالية لا يجدون من اللذة مثل ما يجد البشر ، الذين يكونون محجوبين بالعلائق الجسمانية والحجب الظلمانية ، فهذه المزية من اللذة مما يختص بها البشر ، ولعل هذا هو المراد من قوله تعالى في سورة الأحزاب : الآية ٧٢ : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ). (الرازي ١ : ٣٠٨).
(١) سورة الأنبياء : الآية ٢٠.