أجابت الحنفاء :
هذا الحكم الذي ذكرتموه ، وهو كون الروحانيات موجودات بالفعل ، غير مسلم على الإطلاق ، لأن من الروحانيات ، ما يكون وجوده بالقوة ، أو ما هو فيه وجود بالقوة. ويحتاج إلى ما وجوده بالفعل ، حتى يخرجه من القوة إلى الفعل ، فإن النفس لها استعداد القبول من العقل عندكم ، والعقل له إعداد لكل شيء ، وفيض على كل شيء ، وأحدهما بالقوة ، والآخر بالفعل ، وهذا لضرورة الترتب في الموجودات العلوية ، فإن من لم يثبت الترتب فيها لم تتمش له قاعدة عقلية أصلا ، وإذا ثبت الترتب فقد ثبت الكمال في جانب ، والنقصان في جانب ، فليس كل روحاني كاملا من كل وجه ، ولا كل جسماني ناقصا من كل وجه. فمن الجسمانيات أيضا ما وجوده كامل بالفعل ، وسائر النفوس أيضا محتاجة إليه ، وذلك أيضا لضرورة الترتب في الموجودات السفلية ، وإن من لم يثبت الترتب لم تستمر له قاعدة عقلية أصلا. وإذا ثبت الترتب فقد ثبت الكمال في جانب ، والنقصان في جانب. فليس كل جسماني ناقصا من كل وجه.
قالت : وإذا سلمتم لنا أن هذا العالم الجسماني في مقابلة ذلك العالم الروحاني ، وإنما يختلفان من حيث إن ما في هذا العالم من الأعيان فهو آثار ذلك العالم ، وما في ذلك العالم من الصور فهو مثل هذا العالم ، والعالمان متقابلان كالشخص والظل ، وإذا أثبتم في ذلك العالم موجودا ما بالفعل كاملا تاما ، حتى تصدر عنه سائر الموجودات : وجودا ، ووصولا إلى الكمال. فيجب أن تثبتوا في هذا العالم أيضا موجودا ما بالفعل كاملا تاما ؛ حتى تصدر عنه سائر الموجودات : تعلما ووصولا إلى الكمال.
قالوا : وإنما طريقنا إلى التعصب للرجال ونيابة الرسل في الصورة البشرية ، طريقكم في إثبات الأرباب عندكم وهي الروحانيات السماوية ، وذلك احتياج كل مربوب (١) إلى رب يدبره ، ثم احتياج الأرباب إلى رب الأرباب.
__________________
(١) المربوب : من ربّ يرب الأمر إذا ساسه وقام بتدبيره ، والرب يطلق على الله تبارك وتعالى ، ويطلق على مالك الشيء ، فيقال : رب الدين ورب المال ، ويستعمل بمعنى السيد والمدبّر والقيّم والمنعم ، ومنه ـ