ومن العجب أن عند الصابئة أكثر الروحانيات قابلة منفعلة ، وإنما الفاعل الكامل واحد ، وعن هذا صار بعضهم إلى أن الملائكة إناث وقد أخبر التنزيل عنهم بذلك (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) (٢).
وإذا كان الفاعل الكامل المطلق واحدا ، فما سواه قابل محتاج إلى مخرج يخرج ما فيه بالقوة إلى الفعل ، فكذلك نقول في الموجودات السفلية : النفوس البشرية كلها قابلة للوصول إلى الكمال بالعلم والعمل ، فتحتاج إلى مخرج يخرج ما فيها بالقوة إلى الفعل. والمخرج هو النبي والرسول ، وما هو مخرج الشيء من القوة إلى الفعل لا يجوز أن يكون أمرا بالقوة محتاجا ، فإن ما لم يتحقق بالفعل وجودا ، لا يخرج غيره من القوة إلى الفعل ، فالبيض لا يخرج البيض من القوة إلى صورة الطير ، بل الطير يخرج البيض.
وهذا الجواب يماثل الجواب الأول من وجه ، وفيه فائدة أخرى من وجه آخر ، وهي : أن عند الحنفاء المعقول لا يكون معقولا حتى يثبت له مثال في المحسوس وإلا كان متخيلا موهوما ، والمحسوس لا يكون محسوسا حتى يثبت له مثال في المعقول وإلا كان سرابا معدوما ، وإذا ثبتت هذه القاعدة ، فمن أثبت عالما روحانيا ، وأثبت فيه مدبرا كاملا من جنسه : وجوده بالفعل ، وفعله إخراج الموجودات من القوة إلى الفعل بفيض الصور عليها على قدر الاستحقاق ، فيلزمه ضرورة أن يثبت عالما جسمانيا ، ويثبت فيه مدبرا كاملا من جنسه : وجوده بالفعل ، وفعله إخراج الموجودات من القوة إلى الفعل بفيض الصور عليها على قدر الاستحقاق ، ويسمى المدبر في ذلك العالم «الروح الأول» على مذهب الصابئة والمدبر في هذا العالم «الرسول» على مذهب الحنفاء ، ثم يكون بين الرسول والروح مناسبة وملاقاة عقلية ، فيكون الروح الأول مصدرا ، والرسول مظهرا ، ويكون بين الرسول وسائر البشر مناسبة وملاقاة حسية ، فيكون الرسول مؤديا ، والبشر قابلا.
__________________
ـ ما جاء في حديث أشراط الساعة : وأن تلد الأمة ربّها.
(٢) سورة الزخرف : الآية ١٩ وتمامها قوله عزوجل : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ).